
إذا كانت مهنتك البحث عن الحقيقة وصناعة الأخبار، وكان قدرك أن تعيش في عصر يسوده الكذب، النفاق، والخداع، وتزييف الحقائق، ستكون ضالتك نادرة الوجود، فلا تبحث عنها بأدواتك التقليدية.
لقد أصبح البحث عن الحقيقة مهمة شاقة لا يمكن التقليل من صعوبتها في ظل عصر التكنولوجية الذكية، وبات الإعلام -الذي يُفترض أن يكون حارسًا أمينًا لهذه الحقيقة- درع متصدع لا يحمي؛ وغالبًا لا يقدر على المواجهة الحاسمة لكل تضليل أو تزييف، لاسيما يتم استخدامه في أحيان كثيرة كجزء من آلة التضليل، سواء عن قصد أو بسبب ضغوط السوق ومتطلبات اللحظة.
مع ظهور الذكاء الاصطناعي (AI)، ازداد النقاش حول دور هذه التقنية الجديدة في مكافحة التضليل الإعلامي أو العكس، وهل الـ” AI” يساهم في تأجيج وتوسيع نطاق التضليل الإعلامي أم أنه يعد مساعد ذكي في الكشف عنه والحد من توسعه وانتشاره.
لا يُغيب علينا نحن العاملون في مهنة الصحافة والإعلام؛ أننا أصبحنا عاجزون عن إطلاق حكم نهائي في مدي مسؤولية الذكاء الاصطناعي عن تفاقم ظاهرة التضليل الإعلامي من عدمه، ودور الإعلام في التصدي لهذه الظاهرة أو كونه جزء من الآلة التضليلية؟، لهذا يجب أن نتوقف أمام هذا التصاعد اللا محدود لتغول التقنيات الذكية داخل مجال الصحافة والإعلام، مع وضع ضوابط استراتيجية لاستخداماتها المحكمة.
دور الذكاء الاصطناعي في مكافحة التضليل الإعلامي
تعتمد أدوات الذكاء الاصطناعي -اللا معدودة- على تقنيات تعلم الآلة لمعالجة كميات هائلة من البيانات والتعرف على الأنماط الخاطئة أو المشبوهة. وفي هذا الصدد استطاع الـ”AI” أن يقدم أدوات متقدمة لتحليل وتقييم الأخبار بشكل أسرع وأكثر دقة مما كان ممكنًا في الماضي.
ففي عام 2023، ظهرت تقنيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي مثل أدوات “Fact Mata” و”Logically” التي ساعدت في تحليل المقالات والأخبار للتعرف على التضليل وتصنيفه بشكل فوري. وتمكنت هذه الأدوات من توفير تقارير دقيقة وسريعة حول مصداقية المعلومات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما ساعد في الحد من انتشار الأخبار الزائفة.
الجانب المظلم: الذكاء الاصطناعي كتقنية لتعزيز التضليل
نتفق جميعًا أن لكل قاعدة شواذ، وأنه أسفًا؛ ليس كل ما يلمع ذهبًا. ففي عامي 2023 و2024، ظهرت استخدامات مقلقة للذكاء الاصطناعي، تهدف إلى تعزيز التضليل الإعلامي، لاسيما كان ظهورها ذات أهداف خفية، وغير معلومة حتى اليوم، ولكن أثرها كان شديد الوضوح في محيط تأثيرها.
في منتصف العام 2023، تعرضت عدد من الحملات الانتخابية في بعض الدول الأوربية لتزوير خطاباتها السياسية، وتم نشر المحتوي المضلل على نطاق واسع بهدف التأثير على الرأي العام، ولقد استطاع بعض المبرمجين من الأعضاء بالحملات الانتخابية المستهدفة الكشف عن تزييف الخطابات باستخدام أداة الذكاء الاصطناعي المعروفة بـ “Deep fake”، التي تمكن من تعديل وتغيير مقاطع الفيديو والصوت بشكل يجعل من الصعب التفريق بين الحقيقة والتزييف.
وتكرر استهداف أوروبا في العام نفسه بحملة تضليل إعلامي كبيرة، تعمدت نشر أخبار كاذبة حول أزمة الهجرة. واستهدفت هذه الحملة تضخيم المخاوف المرتبطة بالهجرة غير الشرعية، حيث انتشرت مقاطع فيديو مفبركة بالذكاء الاصطناعي تُظهر حوادث لم تحدث أصلاً. أثرت هذه الأخبار على الرأي العام وزادت من موجة العداء تجاه المهاجرين.
وتعرضت منطقة الشرق الأوسط في عام 2024، لنشر الأكاذيب بشكل مكثف من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتم توثيق حملات تضليل إعلامي واسعة النطاق في دول مثل سوريا والعراق، حيث استخدمت جماعات مسلحة ومتطرفة أدوات مثل “Deep fake” و”Chabot’s” مدعومة بالذكاء الاصطناعي لنشر أخبار مزيفة ومقاطع فيديو مفبركة ومصممة خصيصًا لاستهداف فئات معينة من المجتمع بهدف التأثير على الرأي العام وتأجيج التوترات السياسية والطائفية.
وانتشرت حملة تضليل واسعة النطاق خلال الانتخابات المحلية في الهند في عام 2024. إذ استخدمت بعض الجماعات “Deep fake” في إنشاء مقاطع فيديو، تُظهر قادة سياسيين وهم يدلون بتصريحات مزيفة، مما أثار الفتنة والارتباك بين الناخبين. وقد أدى ذلك إلى تزايد التوترات بين الجماعات السياسية المختلفة وأثر بشكل مباشر على نتائج الانتخابات.
واستهدفت حملة تضليل إعلامي قارة إفريقيا في 2024، وخاصة خلال فترة النزاعات المسلحة في منطقة الساحل. إذ استخدمت الجماعات المسلحة الذكاء الاصطناعي لتصميم رسائل مفبركة تُظهر الحكومة المركزية وهي ترتكب انتهاكات جسيمة ضد السكان المحليين. تم نشر هذه الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى تزايد حدة العنف وانعدام الثقة في الحكومة.
وتعرضت الولايات المتحدة لحملة تضليل إلكتروني مرتبطة بالأمن القومي في 2024. إذ استخدمت مجموعات مشبوهة الذكاء الاصطناعي لإنشاء وثائق ومقاطع فيديو مزيفة، تشير إلى وجود تهديدات إرهابية وهمية، بهدف إثارة الذعر العام وزيادة التوترات الأمنية. واستهدفت إضعاف الثقة في المؤسسات الأمنية وتفاقم الانقسامات الاجتماعية.
تظهر هذه الأمثلة كيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة قوية في نشر الأكاذيب والتضليل الإعلامي على نطاق عالمي، مما يبرز الحاجة الماسة إلى تطوير آليات رصد ومكافحة فعالة لهذه الظاهرة، مع تعليم وتدريب العنصر البشري في مجال الصحافة والإعلام على آليات الرصد والمكافحة. في الوقت نفسه يتم تدريبه على استخدام ” AI” المساعدة في تطوير أدواته المهنية.
ورغم هذا؛ يظل الذكاء الاصطناعي سلاحًا ذو حدين. فالوجه المضيء له يظهر قدرات فائقة على تحليل الأخبار والتأكد من مصداقيتها، ويمثل أداة قوية في مكافحة التضليل الإعلامي، ولكن بنفس القوة؛ يطل علينا الوجه المظلم في استخدامه لتعزيز وتوسيع نطاق هذا التضليل.