
عمرو خان
في تخوم الغرب السوداني، حيث تتشابك الحدود مع تشاد، وتتصافح السهول مع الجبال، تقوم الجنينة، مدينة تتنفس على إيقاع الأسواق الأسبوعية وطرق القوافل القديمة. وإلى شمالها الغربي، تتربّع “أرداماتا”؛ حيّ صغير كان يشبه المرآة التي تعكس التنوّع: مساليت يزرعون الأرض، وعرب يلاحقون المطر والكلأ، وأزقة تحفظ أصوات الأطفال بلغات ولهجات شتى.
لكن في نوفمبر 2023 من عامٍ مضطرب، انكسرت المرآة.
لم يكن الانكسار فجائياً، فقد بدأ الشرخ قبل ذلك بسنوات، حين أخذت الهويات القديمة، التي كانت مظلة للعيش المشترك، تتحول إلى خطوط متوازية لا تلتقي. ومع ضعف الدولة، وغياب الحارس الذي يمنع الظل من أن يبتلع النور، بدأت البنادق تتكلم بلغة الأنساب والانتماءات، لا بلغة القانون.
في أيام الهجوم، غابت الأزقة عن ضجيج الأطفال، وحلّ مكانه هدير الشاحنات المحمّلة بالرجال المسلحين. أبواب البيوت لم تعد تُطرق، بل تُخلع. النار لم تعد في مواقد الطبخ، بل في جدران البيوت وأسقفها. الأسماء التي كانت تُذكر في الأعراس والمجالس، صارت تُكتب في قوائم الغياب الأبدي.

انقسم الحيّ كما ينقسم الخبز اليابس تحت السكين: نصف تمسّك بأرضه حتى آخر طلقة، ونصف آخر انسحب إلى الضفة المقابلة من الجرح. الشوارع صارت خطوط تماس، والماء والخبز والهواء صار لكل طرف منه حصته المشروطة.
الخسائر لم تكن مجرد أرقام في تقرير دولي؛ كانت وجوهاً لن تعود، وحقولاً لن تُزرع، وأحلاماً صغيرة وُئدت في منتصف الطريق. آلاف الأرواح أُطفئت، وعشرات الآلاف ساروا في طرق النزوح، يحملون على أكتافهم بيوتاً من ذاكرة، لا من طين.
اليوم، إذا مررت بأرداماتا، قد ترى حجراً لا يزال يحتفظ بحرارة النار التي أكلت البيت، أو شجرة تظلّل مقبرة جماعية. ولكنك، قبل كل شيء، سترى حدوداً غير مرسومة على الورق، تفصل بين “نحن” و”هم” في قلب المساحة التي كانت يوماً “نحن جميعاً”.
إن ما جرى هناك لم يكن نزاعاً على أرض أو مال؛ كان إعلاناً بأن الهوية، حين تُسلّح وتُترك بلا عقد جامع، تصبح قادرة على شطر المكان والذاكرة إلى نصفين… إلى الأبد.