
كانت زيارتي الأولى لمطار بورتسودان في مطلع عام 2008. هبطت طائرة مصر للطيران في الثالثة صباحًا، وفتحت أبوابها للركاب بينما تتدحرج الأمتعة من باطن الطائرة. على سلم متواضع نزلت مع الركاب إلى أرض المطار الخاوية من أي صخب مألوف، حيث بدا كل شيء متأثرًا بعمر الزمن، متروكًا لهدوئه الخافت وكسله المريح. لم أكن حينها على دراية بشؤون السودان السياسية أو الاقتصادية، فقد كانت رحلتي مجرد استجابة لدعوة صديق لحضور عُرس شقيقه الأكبر، نجل رجل أعمال معروف.

بعد إنهاء إجراءات الجوازات بسهولة، وجدت صديقي في انتظاري بسيارة صغيرة أنيقة، شاب من خيرة شباب السودان، واسع الأفق، متواضع في سلوكه رغم علمه وثقافته التي تبدو بلا حدود. خرجنا من المطار في الظلام الدامس، على طرق غير ممهدة، ودرب لا يعرف مساره إلا أهل المدينة، بينما كانت أنفاسي تتسارع بين دهشة المجهول وفضول ما ينتظرني في هذا المكان الجديد.
وصلنا إلى منزل العائلة على كورنيش (سي لاند). الحي في هدوء عميق، بين سكانه وحيواناته ونباتاته، وحتى مياه البحر الأحمر بدا صامتًا، متحفظًا على أسراره. ركن السيارة، واتجهنا نحو مدخل المنزل الكبير، حيث الممر تتدلى عليه فروع الزهور النادرة، والورود تزين جانبيه، والسقف مفتوح على الفضاء الرحب، كأن كل شيء هنا يهمس بالطمأنينة.
صعدنا إلى السطح، الفيلا ذات الثلاثة طوابق وحديقتها المربعة تلتف حول أركانها، وفيها شقة صغيرة للضيوف العزاب. نزلت إلى هذه الشقة، وتركني صديقي بعد أن استمع إلى صوت والده متجهًا إلى المسجد لصلاة الفجر، ثم إلى أعماله في حي (ترانزيت) و(السوق).
مع مرور ساعات النهار، استيقظت على ضوء خافت من الباب، وسرعان ما جاء صوت صديقي: “افتح يا زول.. أبوي داير يرحب بيك”. فتحت الباب لأجد نفسي أمام دفء الاستقبال، وابتسامة على وجهي لا أستطيع السيطرة عليها، بينما كانت الساعة الرابعة عصرًا، ومع ارتداء الملابس والتجهز للنزول، بدأت لحظة اللقاء مع رب الأسرة، جلسة تعارف بين كلمات متبادلة وابتسامات دافئة، قبل أن تنشغل الأسرة بتجهيزات العُرس، والوقت يمر بين ضحكاتهم وأحاديثهم.
قضيت الأيام بين أجواء الحي وهدوء كورنيش (سي لاند)، حتى جاء بعد العُرس ما لم يكن متوقعًا، رسالة من صديقي تدعو إلى زيارة ثانية لبورتسودان، بناءً على طلب والده. المقترح الذي طرحته عن تطوير الكورنيش قد أثار اهتمام الرجل، وناقشه مع الوالي آنذاك، الدكتور محمد طاهر إيلا، الذي بدا متجاوبًا ومهتمًا. وهنا بدأت ترتسم الخطوة التالية، ترتيب لقاء رسمي يجمع بيني وبين والي بورتسودان، مع إشراف على المشروع المستقبلي، وبدا المستقبل أمامي مليئًا بالاحتمالات، وما زالت تفاصيله مجهولة، تنتظر اللحظة التي ستكشف كل شيء.
وفي الجزء الثاني .. للحديث بقية