في إحدى قرى ولاية النيل الأزرق، وتحديدًا في مدينة ود مدني، وُلد كامل إدريس عام 1954، في زمنٍ كانت فيه آمال الاستقلال السوداني لا تزال طرية، ومعارك الهوية الوطنية في طور التشكل. منذ نشأته الأولى، لم يكن كامل طفلًا عاديًا. كانت لديه تلك النظرة المتجاوزة لجدران الفصول، ولهفة لفهم العالم الأوسع من محيطه المحلي. من تلك البدايات المتواضعة، بدأ شق طريقه ليصبح أحد أبرز الشخصيات السودانية على الساحة الدولية، وعقلًا عربيًا وأفريقيًا مرموقًا في دوائر القانون الدولي وحقوق الملكية الفكرية.
من القضارف إلى جنيف.. سيرة التحدي والمعرفة
تخرج إدريس في جامعة الخرطوم في سبعينيات القرن الماضي، متخصصًا في الفلسفة والحقوق، قبل أن تبدأ رحلته في عوالم الأكاديميا الرفيعة. انتقل إلى القاهرة، حيث واصل دراسته في جامعة القاهرة، ثم إلى الولايات المتحدة، حيث نال الماجستير من جامعة أوهايو، ومن ثم الدكتوراه من جامعة جنيف ومعهد الدراسات الدولية والتنموية الشهير. هناك في جنيف، حيث تتداخل الدبلوماسية بالسياسة الدولية، بدأت ملامح دوره العالمي في التشكل.
في عام 1982، انضم إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، المؤسسة الأممية المعنية بحماية الابتكار والإبداع، وهناك صعد بهدوء وثقة في السلم الإداري، حتى تقلّد منصب المدير العام للمنظمة عام 1997، كأول أفريقي وأول عربي يتولى هذا المنصب الرفيع، والذي ظل يشغله حتى عام 2008.
دبلوماسي بلا حدود.. و”أفريقي بلا عقدة“
في فترة رئاسته للويبو، خاض إدريس معارك كبرى من أجل إعادة تعريف مفاهيم الملكية الفكرية، خاصة لصالح الدول النامية، التي كانت تُظلم تاريخيًا في قوانين براءات الاختراع وحقوق النشر. لم يكن إدريس موظفًا دوليًا تقليديًا؛ بل كان مفكرًا يحمل على عاتقه همًا تنمويًا وقاريًا. دافع عن أهمية حماية المعرفة التقليدية والأدوية النباتية، وعن حق القرى الأفريقية في أن ترى اختراعاتها التراثية مسجلة باسمها، لا أن تُنهب باسم الحداثة.
في أروقة الأمم المتحدة، عُرف إدريس بصوته الهادئ، وكلماته المحكمة، ولغته الإنكليزية الرصينة التي تشي بثقافة قانونية وفلسفية عميقة. لكنه ظل في الجوهر سودانيًا يعتز بأصوله، يصف نفسه بأنه “فلاح أفريقي يعرف قيمة التراب”، وينتمي إلى السودان بثقله التاريخي وعمقه المتعدد.
ترشحٌ رئاسي وصدام مع السلطة
في عام 2010، عاد كامل إدريس إلى السودان بطموح سياسي، معلنًا ترشحه للرئاسة في مواجهة النظام البشيري. كان ذلك قرارًا جريئًا، نظرًا لتضييق الحريات آنذاك، وتحكم الأجهزة الأمنية في المجال العام. واجه إدريس حينها حملة تشويه من النظام الحاكم، شملت اتهامات بتزوير شهاداته، وهي تهم ثبت لاحقًا زيفها، وتم تبرئته منها دوليًا. لكنه رغم التحديات، لم يتخل عن دوره كمثقف نقدي يسعى لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس العدالة والشفافية.
فكر الدولة المدنية
لطالما دعا كامل إدريس إلى قيام دولة سودانية مدنية ديمقراطية، تقوم على سيادة القانون وحقوق المواطنة. في كتاباته وخطبه، يتكرر حديثه عن أهمية التعليم النوعي، واحترام التنوع، وبناء اقتصاد قائم على المعرفة. لم يكن يرى في السودان مجرد مساحة جغرافية، بل كيانًا حضاريًا ينبغي أن ينهض من رماده.
بين الاعتزال والحضور الهادئ
في السنوات الأخيرة، ابتعد إدريس عن الأضواء السياسية المباشرة، لكنه ظل حاضرًا في المشهد الفكري، من خلال محاضراته، وكتبه، ومشاركاته في المؤتمرات الدولية. ينظر إليه اليوم كثير من السودانيين كأحد الرموز الذين حملوا راية السودان عاليًا في المحافل الدولية، في زمن تآكلت فيه صورة الدولة ومكانتها.
رجل من طراز نادر
لم يكن كامل إدريس سياسيًا بالمعنى الكلاسيكي، ولا دبلوماسيًا يسعى للشهرة. كان ولا يزال “ابن السودان العالمي“، الذي آمن بقوة القانون، وعدالة المعرفة، وكرامة الإنسان. وربما، في زمن تتراجع فيه القيم، يكون في مسيرته تذكيرٌ بأن السوداني حين يُمنح الفرصة، يستطيع أن يجلس في الصفوف الأمامية في أي مؤسسة في العالم.












