النزوح.. كلمة مثقلة بالأنين، تحمل بين حروفها ذكريات مُنتزعة وأحلاماً مكسورة. هي الرحيل القسري، والانتقال بلا رغبة، والفقدان الذي لا يُعوّض. نزوح يعني أن تُترك خلفك حياة كاملة، وأن تُدفع إلى حياة أخرى بلا جذور، بلا حاضر يستند إليه، وبمستقبل معلّق في الفراغ. إنها كلمة تختصر مأساة أمة، وصوت جرحٍ مفتوح لم يندمل.”
“رحيل على عجل”
كانت السماء تُمطر رمادًا أكثر مما تُمطر ماء، والبيوت التي كانت ملاذًا قبل أيام تحولت إلى جدران خاوية بلا أبواب.
جلس الطفل آدم على عتبة البيت، ممسكًا بسيارته الصغيرة التي صُنعت من علبة معدنية صدئة. عينيه تلاحقان خطوات أمه وهي تحزم بعض الثياب في حقيبة قديمة.
قال بصوت متهدج:
– “ماما… متين نرجع بيتنا؟”
توقفت الأم لحظة، ويداها ترتجفان، ثم ابتسمت ابتسامة هشة لا تخفي دموعها:
– “أكيد حنرجع يا حبيبي… البيت ما بيمشي، هو قاعد ينتظرنا.”
تدخل الجد، الذي كان يراقب المشهد بعينيه المرهقتين من السنين والخذلان:
– “البيت ما بينتظر يا بنتي… إحنا البنستنى في الأمل. لكن خُدوا الحلم معاكم، الحلم ما في زول يقدر ينزعه.”
شدّ الطفل على لعبته أكثر:
– “أنا ما داير أمشي… هنا أصحابي، هنا غرفتي، هنا ضحكي.”
جلست الأم بجانبه، وضمت رأسه إلى صدرها:
– “الضحك ما بيموت يا ولدي… بس بينتقل معانا، زيو وزي الذاكرة. والضحك حيكون أقوى يوم نرجع.”
صمت قليلًا، ثم همس الجد وهو يضع يده على كتف حفيده:
– “يا آدم، النزوح ما بيعني إنك فقدت حياتك… هو امتحان، عشان تعرف قيمة الحياة.”
في تلك اللحظة، دوّى صوت بعيد، جعلهم يسارعون إلى الباب، متعجلين الرحيل. خرجوا بخطوات ثقيلة، كأنهم يجرّون بقايا عالم كامل معهم.
لم يكن النزوح مجرد رحلة إلى مكان آخر… بل كان حوارًا مفتوحًا بين الماضي الذي ينادي، والمستقبل الذي ما زال يتشكل في الغياب.
“رحيل على عجل” (الجزء الثاني)
تحركت الأسرة بخطى متثاقلة وسط الزحام. الطرقات مكتظة بالعائلات التي تحمل فوق ظهورها ما تبقى من حياة كاملة. أطفال يتشبثون بأيدي أمهاتهم، شيوخ يتكئون على عصيهم، ووجوه غطاها الغبار والخوف.
وقف آدم فجأة، التفت نحو بيته، صرخ:
– “ماما… نسيت كتابي!”
نظرت الأم بعينين دامعتين، ثم مسحت على رأسه:
– “الكتب حترجع يا حبيبي… الكتب بتستنانا في البيت، بس إحنا لازم نمشي الآن.”
تنهّد الجد وقال:
– “في زمن النزوح، يا ولدي، أهم كتاب هو قلبك. خليه عامر بالأمل، عشان ما يضيع منك الدرب.”
على الطريق، مرّوا بجانب امرأة مسنّة تجلس وحدها على حجر. كانت تحمل بين يديها صورة قديمة. توقفت الأم وسألتها:
– “خالتي… وين أهلك؟”
ابتسمت المرأة بمرارة:
– “أهلي تفرّقوا زي الطيور لما يضربها الرصاص… الصورة دي كل البقي لي.”
اقترب آدم منها، نظر إلى الصورة وقال ببراءة:
– “خالتي، ممكن تخلي الصورة تجي معانا؟ إحنا بنلقى ليها مكان في شنطتنا.”
ضحكت المرأة لأول مرة، وقالت:
– “يا ريت، يا وليدي… بس الصور ما بتنزح، الصور بتبقى مغروسة في الذاكرة.”
بعد ساعات طويلة من السير، وصلوا إلى المخيم. خيام بيضاء مصطفة كأنها مقابر صامتة، صفوف طويلة للحصول على ماء ولقمة، وأصوات بكاء تختلط بأناشيد صغار يحاولون اللعب رغم الجراح.
جلس الجد داخل الخيمة، يحدّق في السماء من خلال فتحة صغيرة:
– “النزوح ده ما نهاية… ده بداية جديدة، حتى لو البداية مرة.”
ردت الأم وهي تحاول إشعال موقد صغير:
– “بس البداية محتاجة أمان، والناس محتاجة وطن ما يخذلها.”
اقترب آدم وهو يمسك سيارته المعدنية الصغيرة، وضعها على الأرض وقال:
– “أنا حأعمل شارع هنا، زي شارعنا زمان… وبكرة لمن نرجع، نحكي للناس كيف لعبنا حتى في الغربة.”
ضحك الجد بحرقة:
– “الأطفال… هم الوطن الحقيقي. لو ضحكوا وسط الرماد، معناها لسه في بكرة.”
رحيل على عجل” (الجزء الثالث)
مع مرور الأيام، بدأ المخيم يتحول من محطة مؤقتة إلى حياة مفروضة.
في الصباح الباكر، كان الأطفال يتجمعون تحت شجرة كبيرة عند طرف المخيم، حيث أقام متطوع شاب مدرسة مؤقتة من ألواح خشبية.
جلس آدم بين الأطفال، ممسكًا بدفتر مهترئ تبرعت به منظمة إغاثة. رفع يده وسأل المعلم:
– “أستاذ… لو كتبنا قصص عن بيوتنا القديمة، ممكن نرجع ليها بالكلمات؟”
ابتسم المعلم وقال:
– “الكلمات يا آدم بتصنع جسر بين الماضي والمستقبل… أكتب، يمكن يوم تلقى نفسك راجع تعيش الحلم حقيقة.”
في المساء، كانت الأم تقف في صف طويل للحصول على الطعام. بجانبها امرأة أخرى تشكو:
– “إحنا قاعدين هنا كأننا بلا عنوان… متى ينتهي الانتظار؟”
أجابت الأم بصوت متعب:
– “الانتظار صعب، لكن أسوأ منه الاستسلام. لو ضاع الأمل، نكون خسرنا كل شيء.”
في الخيمة، كان الجد يروي للأطفال حكايات عن القرية، عن النيل الذي يفيض كل عام، وعن الحقول التي تضحك بالخُضرة. اقترب آدم منه وقال:
– “جدي… ممكن تحكي لينا الليلة عن يوم رجعنا؟”
ضحك الجد رغم الدموع التي لمعَت في عينيه:
– “لسه ما رجعنا يا ولدي… لكن الليلة نقدر نحلم. الحلم بداية كل رجعة.”
جلس الجميع حوله، وكأنهم يستمدون من صوته جذورًا جديدة في أرض غريبة. في الخارج، كانت الرياح تعصف بالخيام، لكن في الداخل كان هناك دفء صغير يشتعل… دفء يشبه وطنًا صغيرًا يُبنى من بقايا ذاكرة، ومن ضحكة طفل يصرّ أن يلعب حتى فوق تراب النزوح.
النهاية
في إحدى أمسيات المخيم، اجتمع الناس حول مذياع صغير جلبه أحد الشباب من السوق القريب. كانت الأخبار تأتي متقطعة، لكن صوت المذيع بدا مختلفًا هذه المرة:
“تُعلن منظومة الصناعات الدفاعية عن بدء تنفيذ برنامج العودة الطوعية، بالشراكة مع عدد من الدول التي استضافت النازحين السودانيين… البرنامج يهدف إلى تهيئة الظروف الأمنية والخدمية، وتوفير فرص حقيقية مجانية لإعادة النازحين إلي القرى والمدن لاستقبال أبنائها.”
ساد الصمت لوهلة، ثم بدأت الهمسات تنتشر كشرارة في الحشود:
– “يعني ممكن نرجع؟”
– “البلد لسه بتستنّى فينا!”
آدم، الذي كان يلعب بسيارته المعدنية الصغيرة، رفع رأسه بعينين تلمعان:
– “ماما… يعني خلاص حنرجع بيتنا؟”
احتضنته الأم وهي تحاول أن تخفي دموعها:
– “يمكن يا حبيبي… يمكن أخيرًا الطريق اللي مشيناه بعيد، يرجّعنا للوطن.”
أما الجد، فقد مسح لحيته البيضاء، وحدّق في وجوه النازحين من حوله، وقال بصوت مبحوح لكنه قوي:
– “العودة ما بس رحلة جسد… العودة هي استعادة الروح. واليوم… أظن روحنا بدأت تلقى طريقها.”
كانت الخيام ما تزال قائمة، لكن داخلها اشتعلت شعلة أمل جديدة. لم يعد النزوح نهاية الطريق، بل أصبح بداية عودة طال انتظارها، عودة إلى الأرض التي لا تنسى أبناءها مهما طال الغياب.