
خمسون سنة من الذكريات التي تتزاحم كأنها حدثت بالأمس. أوائل السبعينات، أولى خطوات الوعي، أول زيارة لحديقة الحيوان، وعدسة استوديو صلاح جمعة توثق البراءة. حين كبرت، أخذتني الخطى إلى استوديو الصادق، وبدأت طقوس الجمعة تأخذ شكلاً آخر: صلة أرحام، وكسرة خبز دافئة، وقلوب عامرة بالمحبة رغم تواضع الحال.
أول أيام المدرسة لم أرتدِ الزي المدرسي. فكان العقاب. أستاذ عابدين في حصة العربي لم يغفر لي الخروج عن النظام، وبشرى في حصة الدين كانت له وسائله الخاصة. ومع ذلك، لم تنكسر الروح، بل زادت نشاطًا، فالتحقت بطلائع مايو، وصرت أمينًا للمكتبة، ومحررًا في جريدة الحائط، ولاعب كرة قدم في عصريات الحي.
ثم أواخر السبعينات، استفاق الحي على صوت الرصاص. غزو مسلح، محاولة انقلاب فاشلة. بدأ يتشكل الوعي بوجه آخر للوطن، وطن تتنازعه القوى، ويضيع فيه صوت الطفولة.
في المتوسطة، كانت المدرسة بعيدة، والمسافات علمتني التفكير. كنا نسرق لحظات فرح عند شاطئ النيل، نحمل همومنا الصغيرة ونرميها مع الطين والماء. ثم جاءت منتصف الثمانينات، وجاءت معها ثورة أبريل، ونسمة أمل، لكنها لم تدم. ضاعت الديمقراطية سريعًا، وبدأ الانهيار.
في الثانوي، لم نجد المعلمين. ضاع التعليم، وبدأ الفراغ. وفي منتصف الثمانينات بدأت العمل، ومعه بدأ ثقل الحياة. ثم جاء انقلاب 1989، فأطبق الظلام على ما تبقّى من النور.
وبحمد الله، سافرت إلى ألمانيا، نجوت من حفرة مظلمة، لكني حملت الوطن في القلب. تمنيت أن أنتمي لألمانيا، لكن لم أنس أني من تراب حزين. عشت لحظات جميلة في زيورخ، وجرّبت حظي في الحب مع سويسرية خجولة، لكن العودة كانت حتمًا، وإن عرجت على ذات الدرب.
هل هذه أقدار كُتبت؟
أم أنها ثمار قراراتنا؟
أم تراها ضريبة الخوف؟
سؤال لا جواب له.
لكن بعد خمسين عامًا من الدراسة، العمل، الغربة، الزواج، وتربية الأبناء، هل كانت المحصلة صفرًا؟
أم إنجازًا لا يُقاس بالأرقام؟
أفتوني بعلم، إن كان في القلب متسع للسؤال.
الرضا، الصبر، اليقين… كيف السبيل إليها؟
أنا بين الورى غريب،
كم تمنيت أن تجيبني أيامي.
ذهب العمر، ولم أقطف من لياليه سوى أطياف.
لكنني ما زلت أُحسن الظن، وأقول: يا سلام عليك يا سلام.
مايو 12، انتكست صحيًا.
يونيو 01، حمدًا لله الذي شفاني.
يونيو 03، وقفت على عتبة مدرسة “الوثبة” في معاينة جديدة، كأن الحياة تعيدني طفلًا يبحث عن بداية.
عيد الأضحى مرّ، والدهشة ما زالت تسكنني.
ما خشيت، وقع.
وما تعجبت من حدوثه، صار.
فهل أتعظ؟
أوصيكم بتقوى الله، والمحافظة على الصلاة، وقراءة القرآن.
وقولوا بعدي: “رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.”
هل ما فات كان بابًا أُغلق، أم نافذةً فتحت على الحكمة؟
لا أعلم، لكنني أبتسم للقدر، وأمضي.
“مقال رائع يُلهم العقل ويغذي الروح، شكرًا على هذا الإبداع!”
أ/الفاتح بابكر
مداخله أكثر من رائعه؛ شكراً جزيلاً أستاذ عمرو؛