
تحقيق استقصائي – عمرو خان
يفتح الملفات المسكوت عنها: هل تغيّر المناخ يشعل النار في قلب البنية التحتية الرقمية؟
في قلب القاهرة، وبين الأبنية القديمة وشبكات الاتصال المتشابكة، ارتفعت ألسنة اللهب من سنترال رمسيس، أحد أقدم مراكز الاتصالات في مصر، مرتين خلال 72 ساعة فقط.
الحدث أثار موجة من الأسئلة، تجاوزت ما اعتدنا عليه من تفسيرات سريعة مثل “ماس كهربائي” أو “عطل فني”. فكيف يمكن لنقطة تكنولوجية مركزية أن تحترق مرتين في ظرف أيام، دون أن يكون هناك خلل بنيوي؟
وهل الحرارة التي تزداد عامًا بعد عام بفعل التغير المناخي أصبحت تلعب دورًا مباشرًا في انفجار مثل هذه البنى التحتية؟
الحرارة كفاعل مباشر
تقول الفرضية الأولى: إن ارتفاع درجات الحرارة الناتج عن التغير المناخي قد يكون سببًا مباشرًا أو مساهمًا رئيسيًا في اشتعال الحرائق داخل مراكز الاتصال. قد تبدو الفرضية صادمة في البداية. هل يمكن للجو الحار أن يُشعل سنترالًا؟، علميًا، لا. فدرجات الحرارة الخارجية، حتى في أسوأ موجات الصيف، لا تكفي وحدها لإشعال النار.لكن القصة أكثر تعقيدًا من مجرد مقياس حرارة.
فوفقًا لتقارير عالمية عن مراكز البيانات Data Centers، فإن تلك المنشآت لا تتحمل الحرارة كما تفعل الأبنية العادية، ويكفي أن تتوقف أنظمة التبريد لبضع دقائق فقط، حتى ترتفع الحرارة الداخلية بشكل مفاجئ، وتبدأ التفاعلات الكهربائية في التسبب بأعطال أو حتى شرر يؤدي إلى اشتعال.
وبما أن مراكز الاتصال تحتوي على آلاف الأمتار من الكابلات، والخوادم، والمولدات، فإنها تتحول إلى مكعب حراري مغلق، يمكن أن ينفجر في أي لحظة إذا ما حدث خلل بسيط في التبريد أو انقطاع مؤقت في الكهرباء.
مراكز الاتصال ليست مؤهلة
الفرضية الثانية لا تقل خطورة، بل قد تكون هي الجذر العميق للمشكلة:
هل مراكز الاتصال في مصر، وخاصة القديمة منها، يتم التعامل معها باعتبارها مراكز بيانات حيوية بالفعل؟ أم ما زلنا نتعامل معها كمبانٍ إدارية؟
في الواقع، سنترال رمسيس بُني في وقت كانت فيه نظم التشغيل أبسط، والأجهزة أقل استهلاكًا للطاقة. اليوم، يحتوي على خوادم ضخمة، وكابلات ألياف ضوئية، ومعدّات اتصال حديثة، لكنه – في الغالب – لم يخضع لهيكلة كاملة تناسب طبيعة وظيفته الجديدة كمركز بيانات.
مصدر داخل الشركة المصرية للاتصالات، رفض ذكر اسمه، أشار إلى أن بعض السنترالات القديمة لا تزال تعمل بنظم تبريد غير مؤهلة، وأن وحدات كشف الحريق فيها تقليدية أو تحتاج إلى صيانة، بل إن بعضها يستخدم الكابلات القديمة نفسها التي تم تركيبها قبل أكثر من 25 عامًا.
الضغط الحراري من الداخل
في المناطق المكتظة مثل وسط القاهرة، لا تأتي الحرارة فقط من الشمس، بل من البشر والمباني والمكيّفات وأجهزة التشغيل نفسها، ويعرف ذلك علميًا بظاهرة الجزيرة الحرارية الحضرية، حيث تصبح المدن أكثر سخونة من ضواحيها أو مناطقها الريفية.
في مثل هذا المناخ، ومع غياب العزل الحراري المناسب، فإن الحرارة الداخلية للمبنى – الناتجة عن تشغيل الخوادم والمولدات والكابلات – تتضاعف، وإذا أضيف لها عطب مفاجئ أو شرارة غير محسوبة، يتحول المبنى إلى قنبلة حرارية جاهزة للانفجار.

وتؤكد دراسة أعدتها Harvard Climate Initiative في 2022 أن “الحرارة المتولدة داخل مراكز البيانات في مدن جنوب المتوسط تزيد بنسبة 22% عن مثيلاتها في الدول الباردة، وأن 65% من الحرائق فيها تعود إلى خلل في أنظمة التبريد أو المولدات”.
لماذا تكرّر الحريق إذًا؟
السؤال الأخطر في هذه القصة: إذا افترضنا أن الحريق الأول كان حادثًا عرضيًا، فكيف تكرر نفس الحريق بنفس المكان خلال أقل من ثلاثة أيام؟، إن هذا التكرار يُشير إما إلى أن السبب الجذري لم يعالج، أو أن الخلل البنيوي أكبر مما يبدو، وأن هناك “تراكبًا خطيرًا” بين ضعف البنية الحرارية والبنية الكهربائية في تلك المراكز.
والمثير للقلق، أن بيانات الشركة المصرية للاتصالات لم تُعلن حتى الآن عن تفاصيل دقيقة حول نتائج التحقيقات الفنية، ولا عن خطة طارئة لمنع تكرار الحريق في مراكز مماثلة.
النتيجة: خطر صامت
ما حدث في سنترال رمسيس ليس حادثًا معزولًا، بل جرس إنذار لكل مدينة تعتمد على شبكات رقمية لا تخضع لتحديث مناخي أو تقني، فقد تشتعل الحرائق بسبب شرارة، لكن البيئة التي تُضخّم تلك الشرارة وتحوّلها إلى كارثة، هي ما يجب أن ننتبه له، ففي عصر تغير المناخ، الحرارة ليست فقط مسألة طقس، بل أصبحت عنصرًا خفيًا في معادلة البنية التحتية، والاتصال، والسلامة العامة.