
حوارها الكاتب الصحفي عمرو خان
“أكتب من حافة الصوت… لا للتصنيف، بل لفهم ما لا يُقال”
“الكتابة لا تُغيّر الواقع، لكنها تضيء داخلي عندما تظلم الخارطة”
“الصمت أحيانًا هو النص الوحيد الممكن”
“المنفى عدسة لا مسافة… جعلني أرى بلدي من نبرة اللكنة ورائحة الغياب”
“لا أكتب لتمثيل النساء، بل لأكسر صمتًا طويلًا”
“الفرح ليس خيانة… إنه مقاومة من نوع آخر”
“الرقابة ليست دائمًا قمعًا… أحيانًا هي وعي بالأثر”
“لا أقدّس العادات، ولا أهاجمها… أُحاورها بالنص”
في زمن تتكاثر فيه الأصوات، وتضيع فيه الحكايات في زحام العناوين المستهلكة، تطل علينا الكاتبة سارة حمزة بعمل سردي يشبه تمائم النجاة وخرائط البوح المخبوء، «كأجلٍ زحمة رأس» ليس مجرد مجموعة قصصية، بل أرخبيل من الأصوات المنسية، وشهادات الوجع الإنساني المنحوت بلغة أقرب إلى الشعر منها إلى النثر.
في هذا الحوار الخاص، نفتح نوافذ على تجربة الكتابة عند سارة حمزة، ونغوص معها في تفاصيل عوالمها القصصية التي تفيض بالرمز، الأنثى، الاغتراب، والألم المجتمعي المكثف. نحاورها عن ولادة النص من رحم التجربة، عن كيف تكتب المرأة جسدها، وكيف تحفر الذاكرة شقوقها في السرد، عن الصمت بوصفه مقاومة، والدمعة بوصفها جملة كاملة.
هل الكاتبة تكتب كي تتعافى، أم كي تُبقي الجرح مفتوحًا بوصفه فعل وعي؟
كيف تقرأ المشهد الأدبي السوداني؟ وهل ما زال الصوت الأنثوي يصرخ في فراغ اللغة؟
كل هذا وأكثر، في جلسة بوح –من سلطنة عمان إلي القاهرة– مع كاتبة تؤمن أن النص ليس ما يُكتب، بل ما يبقى في القلب بعد أن يُطوى الكتاب.
في البداية.. من عمان إلي القاهرة
يعرف الناس سارة حمزة الجاك بإنها كاتبة، لكنها مهندسة معمارية سودانية، وُلدت في الخرطوم في 13 فبراير 1980، ودرست الهندسة المعمارية بكلية الخرطوم التطبيقية، جمعت بين تخصصها العلمي وشغفها بالأدب، فبرعت في الكتابة السردية والصحافة الثقافية، وأصبحت من أبرز الأصوات النسائية في المشهد الأدبي السوداني المعاصر.

وبدأت سارة مسيرتها الأدبية مطلع الألفية، وترشحت في 2005 لجائزة الطيب صالح عن روايتها “المعتقة”، إذ عملت بالصحافة الثقافية، وأشرفت على ملاحق أدبية بصحف سودانية كـ”السوداني” و”الأحداث”، ونشرت العديد من المقالات والتحقيقات، وأصدرت عددًا من الأعمال الأدبية، من بينها: “صلوات خلاسية”، “خيانتئذٍ”، “بروباقندا”، “كُمبا”، و”السوس”، إلى جانب كتابات درامية وسيناريوهات مثل “الزغرودة الأخيرة” وسلسلة “السيسبانات”.
وتتميز سارة بأسلوبها المختلف ومقاربتها لقضايا المرأة والمجتمع من خلال الفن والثقافة، إذ أسست “مركز الفال الثقافي” لتطوير المشاريع الثقافية وربطها بالمجتمع، وأطلقت برامج تدريبية استفادت منها مئات الشابات في القراءة والكتابة والتسويق الثقافي، كما ساهمت في ظهور كاتبات جدد في الساحة الأدبية مثل نهلة البدري وسلمى عبد العظيم.
وترتكز قيمها الشخصية والمهنية على الحرية والسلام والحب والعطاء. وتعتبر أن الأدب وسيلة للرفاه النفسي والاجتماعي، وتسعى من خلال مشاريعها إلى تحويل الأفكار إلى مبادرات مؤثرة، وبخبراتها المتنوعة، تقدم نفسها كمرشدة إبداعية تساعد الآخرين على التعبير عن أنفسهم والوصول إلى أهدافهم من خلال أدوات الكتابة والثقافة.
وإلي نص الحوار…
◆ في ظل النزاعات الطويلة… هل تتحول الكتابة من تعبير فردي إلى مسؤولية جماعية؟
الكتابة بالنسبة لي تبدأ كتجربة فردية خالصة، لكنها سرعان ما تتحول إلى مساحة مشتركة تتقاطع فيها الأصوات، وتتلاقى فيها الجراح، فإنا لا أكتب من منطلق التمثيل، ولا أضع على نفسي عبء الحديث باسم أحد، لكنني أدرك أن ما أظنه خاصًا قد يكون مشتركًا في العمق.

أنا أكتب لأفهم ما يحدث، لا لأُصدر أحكامًا. أما عن كوني شاهدة أم فاعلة، فأعتقد أن المسافة بينهما واهية. حين نكتب بصدق عن زمننا، فنحن نشهد ونتفاعل في اللحظة ذاتها.
◆ بين الصمت والقول… متى تفضلين الصمت على الكتابة؟
الصمت بالنسبة لي ليس عجزًا عن التعبير، بل احترام للتجربة، وهناك لحظات تتجاوز اللغة، كما حدث في 25 مايو 2023، حين غادرت منزلي بعد أربعين يومًا من اندلاع الحرب… لم أجد كلمات، فقط صمت كثيف لا يريد أن يُفسَّر. وكان صمتي، حين أشعر أن اللغة قد تجرح بدل أن تواسي، وأكتب فقط عندما تهدأ الموجة ويصبح الصدق ممكنًا.
◆ الكتابة من خارج الخراب… هل تستطيعين الكتابة عن الفرح دون شعور بالخيانة؟
الكتابة عن الفرح ليست خيانة للواقع، بل مقاومة له. ولا أكتب عن الأمل لأنني تجاوزت المحنة، بل لأني أحتاجه كي أظل واقفة. وكتبت عن الحب والشفاء؛ لا لأن الألم اختفى، بل لأني أرفض أن أختزل ذاكرتنا في الدم وحده.

◆ سيرة الكتابة لا سيرة الذات… كيف بدأتِ، وأين حدثت التحولات الكبرى؟
سيرة كتابتي بدأت من سؤال داخلي في عام 1997: “من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟”، لكن أول انقلاب داخلي حقيقي جاء في 2003، حين واجهت نفسي وجوانب مظلمة لم أكن أفهمها. والتحول الجوهري جاء في 2005 حين بدأت أكتب بصدق. الكتابة لم تكن طموحًا أدبيًا، بل محاولة نجاة. وسيرة كتابتي ليست قائمة مؤلفات، بل خارطة ارتباك وتجلٍّ وبحث عن نور.
◆ اللغة وحدودها… هل تكفي اللغة الفصحى؟ أم أن اللهجة والرمز أدوات ضرورية؟
اللغة عندي كالماء… أحيانًا لا أثق بحدودها، لكنها وسيلتي الوحيدة للعبور. والسبب الذي يجعلني ألجأ للهجة السودانية؛ هو حين لا تسعفني الفصحى، ليس لتزيين النص، بل لاستحضار صوت الأم، ورائحة الطفولة. حتي لا يهربان الصورة والرمز من المعنى، بل يسمحان له أن يتكاثر ويكشف ما لا تقوله العبارة الصريحة.
◆ الرقابة الذاتية… هل تفرضين على نفسك حدودًا أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية؟
نعم، هناك رقابة، لكنها رقابة وعي لا رقابة خوف. دائمًا؛ أسأل نفسي دومًا: هل ما أكتبه ضروري؟ هل يكشف أم يُجرّح؟، ودون شك أظل أحترم وقع الجملة في الذاكرة الجمعية. فانا لا أكتب من أجل الصدمة، بل من أجل الفهم.

◆ المنفى… عدسة لا مسافة
المنفى لم يُبعدني فقط، بل جعلني أرى بلدي من جديد. فلقد أدركت أن الانتماء لا يُقاس بالموقع الجغرافي، بل بنبرة اللغة، ودفء الذكرى. إن المنفى صفّى داخلي، وعرّفني على نفسي دون أقنعة.
◆ بعد النشر… هل تتركين النص؟ أم يظل معك؟
ما بعد النشر يشبه الوداع.وأحيانًا أشعر بالتحرر، وأحيانًا بالفراغ. وأفضل أن أتابع ما يقوله القراء، لا بحثًا عن الإعجاب، بل عن صدى الصدق. وأحيانًا، أختار الغياب لأستعيد المسافة بيني وبين النص.
◆ عن تصنيف “أدب النساء”… هل ترينه لا يزال صالحًا؟
لا أتنكر لجندري، لكنني أتحفظ على تصنيف “أدب النساء” حين يُستخدم لتقزيم التجربة. إذ إني أكتب لأنني إنسانة مرّت بما لا يمكن السكوت عليه، لا لأنني أريد أن أعبّر عن “المرأة” فقط. ونعم؛ قد يكون ما يُسمى “أدب النساء” هو أدب الجرح، لكن ليس لأن النساء هَشّات، بل لأنهن حَمَلة الصمت منذ زمن بعيد.
◆ رسالة إلى كاتبة سودانية لم تُولد بعد
“لا تكتبي لإثبات شيء، اكتبي لأنك لا تستطيعين أن تصمتي. ولا تخافي من الجرح، ولا تجعليه عنوانك الوحيد. إذ إن الكتابة ليست مهنة، بل عبءٌ ثقيل على روح خفيفة. وإن شعرتِ بالوحدة، تذكّري: تركنا لكِ بعض الضوء بين السطور.”

◆ أخيرًا… كيف تحبين أن يعرّفك القارئ المصري؟
أنا امرأة تمشي خلف صوت لا تراه، لكنها تؤمن بأنه سيقودها إلى البيت.لا أبحث عن تصنيفات، بل عن أثر صادق.أكتب لأتذكّر، وأحب رغم الجراح، وأحاول أن أترك أثرًا في مكان ما يشبهني ويشبهك.
في مشروعها الروائي اللافت تضع الكاتبة السودانية سارة الجاك القارئ أمام نصوص تتحدى الأنساق السردية التقليدية وتفتح مسارات جديدة للفهم والتأويل..
احسنت القول.. الاستاذة سارة الجاك كاتبة وروائية صاحبة إسلوب مميز نابع من بصمتها البشرية الخاصة بها والفريدة من نوعها
الكاتبة سارة الجاك من الكاتبات المميزات في الساحة الأدبية تبحر في جميع المواضيع وتعطيها حقها ،تضع الكلمة في موقعها المناسب بزاوية قدرها لا تحيد عنها قيد أنملة، في حوارها هذا تكشف عن جمال روحها وجمال كلماتها وإختياراتها فالكتابة لديها رسالة مقدسة توصلها للآخرين لتملأ الحياة بحرية تسكن روحها المبدعة،هي تكتب لتترك لنا ضؤاً بين السطور
ه