
لا يوجد في الحياة اليومية مكان أشد التصاقًا بالوجدان الإنساني من المنزل. فالمنزل، بما يحمله من معانٍ، أشمل من مجرد “بيت” أو “مسكن” أو “دار”، إذ يجمع بين الإقامة الطويلة أو العارضة وبين الذكريات والمشاعر التي تتكون داخله. تبدأ علاقة الإنسان بالمكان عبر المعرفة المتشكلة من خلال التجربة، وهذه المعرفة نوعان: داخلية تنبع من الشعور والانتماء، وخارجية ترتبط بالملاحظة والتفاصيل.
عندما نتأمل الأماكن التي سكنّاها في مراحل حياتنا، نجد أن لكل منها خصائص تؤثر فينا بطرق مختلفة. فالعلاقة بالمنزل تختلف عنها بالشقة المستأجرة، أو غرفة في فندق، أو سكن طلابي. والبيت الذي نشأنا فيه يختلف تمامًا عن ذلك الذي انتقلنا إليه بعد الزواج، أو عدنا إليه بعد التقاعد. وتتأثر علاقتنا بالمكان بعوامل متعددة مثل العمر، والوضع النفسي، والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي صاحبت بداية الإقامة فيه.
الدماغ البشري يسجل الذكريات الأقوى عندما يرتبط الحدث بتأثير نفسي عميق، ويظل المكان الذي وقع فيه الحدث محفورًا في الذاكرة مهما طال الزمن. ولهذا السبب، يعود الإنسان في حنينه إلى أول منزل سكنه، ففيه تتجلى أوضح معالم الطفولة والبدايات. وقد عبّر عن هذا المعنى الشاعر أبو تمام حين قال:
«كم منزل في الأرض يألفه الفتى… وحنينه أبدًا لأول منزل»
يؤكد عالم النفس سيغموند فرويد أن مكان الطفولة هو النموذج الأول الذي تتكون منه الصور المكانية في أحلام الإنسان، مهما كبر أو تنوعت تجاربه. المكان الأول يترك في النفس أثرًا لا يُمحى، ويشكل مرجعية لبقية الأمكنة في المخيلة. هذا ما يفسر أن قصص الآخرين لا نستطيع فهمها إلا إذا تخيلنا لها مكانًا نعرفه أو نرتبط به، كما لاحظ الباحث ديفيد نوغل.
وعندما تغيب التفاصيل المكانية في سرد الحكايات، يعمد الخيال إلى استرجاع صور الأمكنة المخزنة في الذاكرة، خاصة تلك التي ترتبط بالطفولة أو النشأة الأولى. مثال ذلك، حين نقرأ قصة تصف رجلاً يخرج من منزله في حيٍّ بعينه ويستقل وسيلة نقل تمر بشوارع مألوفة، فإن تفاصيل تلك الرحلة توقظ في ذاكرتنا صور الشوارع، ورائحة المخابز، وضجيج المدينة، وكل ما ارتبط بالحواس من مشاهد وأصوات وروائح، مما يبعث في النفس شعورًا بالسكينة والانتماء.
في قصة “أصدقاء وأقدار” للكاتبة ليندا هوغان، يظهر كيف أن المكان يظل غير واضح تمامًا في ذهن القارئ إلا إذا شكّل له تصورًا ذاتيًا مأخوذًا من خبرته المكانية السابقة. فرغم أن النص يشير إلى بيئة غربية، إلا أن رسم المكان يظل نسبيًا يختلف من شخص لآخر تبعًا لذاكرته وتجاربه.
كل ما سبق يقدّم لنا إطارًا نظريًا لفهم تأثير المكان في تشكيل رؤيتنا للعالم، وكيف تتحكم الأماكن المحفورة في ذاكرتنا في خيالنا وحدود تصورنا، كما تلعب طبيعة المكان – المفتوح أو المغلق – دورًا مهمًا في مزاجنا وسلوكنا. ومع انتقال الناس من الريف إلى المدن، تغيرت علاقتهم بالمكان، وتفاوتت قدرتهم على التكيّف مع الأحياء الحديثة والعمارات والفلل.
في هذا السياق، يظهر تأثير العودة إلى الديار في تعزيز الشعور بالاستقرار النفسي، فالإحساس بالانتماء يرفع من تقدير الذات. ومهما سافر الإنسان وارتحل، يبقى الحنين إلى الوطن هو الأشد حضورًا، فالوطن يُشبَّه بالأم التي تمنح أبناءها الأمان والسكينة.
اليوم، يتحقق حلم العودة. نعود إلى الخرطوم، لنبدأ فصلاً جديدًا من تاريخها، نحن من سيعيد بناءها، وسنعيد لها مجدها وسيرتها الأولى.