
في قلب الجحيم الممتد للشرق الأوسط، تتوالى الصراعات وتتعاظم الكوارث، بينما تقف ثلاث قوى عالمية—روسيا، الصين، وكوريا الشمالية—على هامش المأساة، لا بصفتها غائبة، بل بصفتها مراقبة، مستثمرة، ومُناورة من وراء الستار.
تبدو هذه القوى كمن يشاهد فيلمًا طويلًا من الدم والدمار، تارة بصمت بارد، وتارة بتدخلات محسوبة لا تهدف لردع العنف بقدر ما تسعى لتعظيم المصالح الجيوسياسية والاقتصادية، وملء الفراغات التي يتركها انسحاب أو ارتباك الغرب.
روسيا: نفوذ بلا التزام أخلاقي
ورثت روسيا عن الاتحاد السوفيتي شهوة التمدد من خلال دعم الأنظمة المعادية للغرب. في سوريا وليبيا، وجدت في دعم النظام السوري بوابة للعودة العسكرية إلى المتوسط، من خلال ترسيخ قواعدها في طرطوس وحميميم، وفرض نفسها كوسيط لا غنى عنه.
لكن روسيا لم تكن يومًا معنية بإطفاء الحروب، بل بإدارة التوازنات، وإطالة أمد الأزمات طالما ضمنت استمرار الطلب عليها كطرف ضامن. فهي لا تحسم الصراعات بل تعيد هندستها بما يخدم خريطة نفوذها.
الصين: براغماتية استثمارية خلف صمت دبلوماسي
في المقابل، تمارس الصين صمتًا استراتيجيًا مربحًا، مبتعدة عن الضجيج العسكري لكنها نشطة في بناء النفوذ طويل الأمد. عبر مبادرة “الحزام والطريق”، تتمدد في موانئ ومناطق لوجستية من باكستان إلى مصر، ومن العراق إلى المغرب.
لا تتدخل بكين عسكريًا، لكنها تتعامل مع حروب الشرق الأوسط كمخاطر تجارية: كل تصعيد في الخليج يهدد إمدادات الطاقة، وكل اضطراب سياسي هو فرصة لبناء نفوذ اقتصادي بديل عن الحضور الأمريكي المتراجع. في اليمن، السودان، أو فلسطين، تكتفي ببيانات غامضة تدعو لـ”ضبط النفس”، بينما تُراكم صفقات البنية التحتية والطاقة.
كوريا الشمالية: الصوت العالي والدور الخفي
أما كوريا الشمالية، ورغم ضعف نفوذها المباشر، تُجيد لعب أدوار رمزية مشاغبة. تقدم السلاح أو التقنية لفصائل بعينها، وتستغل اشتعال المنطقة لإظهار تحديها المستمر للغرب، وتبرير برنامجها النووي. تدعم إيران سياسيًا، وتتماهى مع خطابها المعادي لإسرائيل وأمريكا، لكنها تفعل ذلك كجزء من لعبة البقاء أمام العالم كندٍّ وليس كدولة هامشية.
الحرب بين إيران وإسرائيل: مرآة الاصطفاف الحقيقي
اندلاع المواجهة بين إسرائيل وإيران، التي قد تتحول إلى حرب إقليمية شاملة، شكّل اختبارًا جديدًا لمواقف هذه القوى.
- روسيا وجدت نفسها في معضلة: علاقاتها بإيران قوية في الملف النووي وسوريا، لكن التفاهمات الأمنية مع إسرائيل لا تزال قائمة، خاصة فيما يخص الغارات على المواقع الإيرانية في دمشق. ولذلك، اكتفت موسكو بدعوات فضفاضة لـ”ضبط النفس”، بينما تراقب النتائج لتعرف من الطرف الذي قد يخرج أضعف، فتستثمر في إعادة التوازن لاحقًا.
- الصين تدرك أن كل تصعيد في الخليج يهدد شحنات النفط القادمة من مضيق هرمز. ولذلك تمسكت بموقف محايد ظاهر، داعية للحوار، بينما تواصل صفقاتها مع طهران وتل أبيب معًا، في ازدواجية لا تخلو من البراغماتية الاقتصادية الصارخة.
- أما كوريا الشمالية، فقد استغلت الحدث للتأكيد على أن “من لا يملك قوة الردع سيُدهس”، مُظهرة دعمًا علنيًا لإيران، لا بدافع جغرافي أو اقتصادي، بل كرأس حربة ضد واشنطن في أي ساحة يمكنها أن تُحرّك فيها الخطاب.

ثلاثية اللامبالاة: حين تتحول الشعوب إلى بيادق
ما يجمع بين هذه الدول الثلاث ليس فقط غياب الدور الإنساني، بل تحويل الشرق الأوسط إلى ساحة مناورات مصالح باردة. كل واحدة منها تحسب خطاها بدقة، دون أن تُكلف نفسها عناء التدخل لإنهاء معاناة أو وقف نزيف.
الصراعات بالنسبة لها ليست أزمات يجب حلها، بل أوراق تُدار على رقعة الشطرنج الدولية: من قواعد عسكرية، إلى موانئ استراتيجية، إلى تحالفات مرحلية، إلى أسواق تسليح أو إعادة إعمار.
الغائب الأكبر: الإنسان العربي
بينما تتوزع القوى الكبرى بين الطمع والمراقبة، يبقى الإنسان العربي هو الغائب الأكبر في المعادلة. لا يُرى إلا كرقم في نشرات النزوح، أو كخسارة جانبية في حسابات القوى، أو كوسيلة ضغط إعلامية عند الحاجة.
وهكذا، تتكرر المشاهد: أجساد تُدفن، ومدن تُحرق، وأمم تتفكك، بينما يجلس الثلاثي—روسيا، الصين، وكوريا الشمالية—في مقاعد خلفية، يسجلون النقاط، ويستعدون للصفقات القادمة.