أخر الأخبار

يا أهل السودان: هل نملك أن نمنح البطل "مهند" لقب "شهيد"؟

لا يكاد يمر يوم في السودان إلا ويُعلن عن سقوط قتلى من الجيش أو ميليشات الدعم السريع. ومع كل خبر موت، تتسابق الناس إلى إطلاق كلمة “شهيد” على قتلاها، وكأنها صكّ غفران سياسي أو وسام معنوي يبرّر الدم المسفوك.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل الشهادة وصف بشري نوزّعه كيف نشاء؟، أم منزلة ربانية لا يعلم حقيقتها إلا الله؟

منذ صدر الإسلام، ارتبطت الشهادة بالنية والغاية. قال النبي ﷺ: “من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد”، لكن الفقهاء أجمعوا على أن التعيين الفردي – أن نقول “فلان شهيد” – أمر يتوقف فيه العلماء، لأن السرائر عند الله. ما يجوز لنا هو أن نقول: “نحسبه عند الله شهيدًا، ولا نزكي على الله أحدًا”.

في النزاعات الداخلية، مثل الحرب الدائرة الآن في السودان، يتعقّد المشهد أكثر. فالنبي ﷺ حذّر قائلاً: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار”، إلا أن العلماء استثنوا من يقاتل دفعًا عن نفسه وأرضه وماله من البغي والعدوان. لكن حتى في هذه الحالة، يبقى الحكم النهائي غيبًا إلهيًا.

وسط هذا الجدل، يبرز اسم مهند إبراهيم فضل، مسؤول العمليات في فيلق البراء بن مالك، أحد أبرز المقاتلين ضمن القوات المشتركة مع الجيش السوداني. كان شابًا وطنيًا، صريح الوجه، طيب القلب، عُرف بدماثة خلقه وروحه القتالية العالية. خاض معارك عدة في سلاح المدرعات، وأظهر شجاعة لفتت أنظار قادة الجيش أنفسهم، حتى أن اللواءات كانوا يلتقونه شخصيًا، يثنون على استبساله ويشجعونه على المضي قدمًا.

مهند إبراهيم فضل
مهند إبراهيم فضل

في معركته الأخيرة في كردفان، أصيب مهند إصابة قاتلة، وصعدت روحه الطيبة إلى بارئها. ومنذ ذلك الحين، انقسم الناس حول لقبه: هل هو شهيد أم مجرد قتيل آخر في حرب الكرامة؟ البعض تمسّك بمنزلته الرمزية كبطل استبسل دفاعًا عن السودان، وآخرون تردّدوا أمام النصوص الشرعية.

الأكثر إثارة للجدل، صورة تداولها البعض لكتاب صغير ذي غلاف أحمر بجوار جثمانه. الشائعات زعمت أنه جواز سفر دبلوماسي، وكأن خصومه لا يجدون ما يطعنون به إلا عبر تهمة سياسية. لكن مقربين منه كشفوا أن الكتاب لم يكن إلا “حصن المسلم”، الكتيب الذي كان يقرأ منه أذكاره في خضم القتال. وهنا، يطلّ مشهد عميق الدلالة: مقاتل في عزّ المعركة يتدرع بالدعاء قبل أن يتدرع بالرصاص.

رحيل مهند ليس مجرد موت مقاتل، بل هو مرآة لصراع اللغة في السودان. فبينما يحاول كل طرف أن يحتكر مفردة “الشهيد”، يبقى الواقع أن الشهادة لا تُمنح ببيان صحفي ولا تُنتزع بهتاف سياسي. هي مقام إلهي. ما يبقى في ذاكرة الناس ليس لقبًا، بل صورة رجل قاتل بشجاعة، وترك أثرًا من الوفاء والانتماء.

في النهاية، لعل السؤال الأعمق ليس: “هل مهند شهيد أم لا؟” بل: “كيف نصنع لغة تحفظ للدم حرمته، وتفصل بين البطولة والفتنة؟”

نسأل الله أن يتقبله بواسع رحمته، وأن يجعل خاتمته شرفًا له ولأرض السودان، دون أن نزعم لأنفسنا سلطة النطق بما لا يملكه إلا الله.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى