
12 نوفمبر-القاهرة
عمرو خان
من قائد ميليشيا إلى زعيم محتمل.. رحلة حميدتي نحو الشرعية الدولية
في خضمّ التصعيد الدامي الذي تشهده “دارفور”، وبعد السيطرة الكاملة على مدينة الفاشر في 26 أكتوبر 2025، بدأ قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، يُظهر توجهًا جديدًا نحو الهدنة والتفاوض. هذا التحول، وإن بدا في ظاهره خطوة نحو السلام، إلا أنه يحمل في جوهره أبعادًا سياسية تكتيكية تتجاوز الاعتبارات الإنسانية أو رغبة حقيقية في إنهاء الحرب.
فبعد شهور طويلة من الصراع الذي دمّر مدنًا سودانية بكاملها، وتسبّب في نزوح الملايين، يبرز سؤال جوهري: ما الذي يدفع حميدتي اليوم إلى طلب الهدنة؟
الإجابة تكمن في قراءة ثلاثية الأبعاد لموقفه: البعد السياسي، والبعد الدعائي، والبعد الاستراتيجي.
أولًا: البحث عن شرعية سياسية مفقودة
منذ إعلان حميدتي عن ما أسماه “حكومة تأسيس” ككيان موازٍ لحكومة الخرطوم – بورتسودان، بات واضحًا أن الرجل يسعى لتكريس نفسه كـ فاعل سياسي معترف به، لا كقائد ميليشيا متمردة.
ففي قاموس العلاقات الدولية، لا تفاوض الأمم المتحدة ولا القوى الكبرى مع جماعات متمردة، لكنها تُجري حوارات مع “أطراف سياسية” في نزاع داخلي. لذا، يسعى حميدتي إلى الانتقال من خانة المتهم إلى خانة الشريك المحتمل، مستخدمًا فكرة الحكومة الموازية كجسر للعبور نحو هذا الاعتراف الدولي.
الهدنة هنا ليست نهاية الحرب، بل أداة لتثبيت الحضور السياسي، ووسيلة لانتزاع اعتراف ضمني من المجتمع الدولي بوجود “طرفين متكافئين” في الصراع على السلطة في السودان.

ثانيًا: إعادة توصيف الحرب أمام المجتمع الدولي
يحاول حميدتي — عبر خطاباته الأخيرة وتصريحاته المصوّرة — أن يُغيّر السردية الرسمية للحرب. فبدل أن تُقدَّم للعالم كحرب بين الدولة وقوة متمردة خارجة على القانون، يسعى إلى تصويرها على أنها نزاع بين شريكين سابقين في الحكم اختلفا على توزيع السلطة والنفوذ.
بهذه الصياغة الجديدة، يريد حميدتي أن يبرئ نفسه من صفة التمرد، وأن يحمّل الجيش السوداني مسؤولية “الانقلاب” على الشراكة السابقة، زاعمًا أنه لم يكن يسعى إلا إلى إصلاحات وهيكلة.
هذه الخطوة ليست مجرد محاولة لغسل السمعة أمام الرأي العام الدولي، بل هي إعادة تموضع استراتيجية تهدف إلى تحويل الدعم الإنساني والسياسي نحوه، عبر استمالة الأطراف الغربية التي تبحث عن حلول “واقعية” للصراع، وليس عن منتصر ومهزوم.
إنها محاولة مدروسة لإقناع العالم بأن السودان يعيش أزمة “صراع سلطات” وليس حربًا ضد ميليشيا متمرّدة، وهو توصيف — إن قُبل دوليًا — سيمنح حميدتي موقعًا تفاوضيًا متقدمًا في أي مفاوضات قادمة.
ثالثًا: امتلاك أوراق مساومة جديدة
التحركات الميدانية الأخيرة لقوات الدعم السريع، خاصة بعد السيطرة على الفاشر ومناطق واسعة من غرب وجنوب السودان، منحت حميدتي مساحة من القوة الجغرافية والسياسية يمكنه أن يفاوض بها مستقبلًا.
ففي منطق الحروب الأهلية، السيطرة على الأرض تعني امتلاك ورقة ضغط سياسية، خصوصًا عندما تبدأ ترتيبات وقف إطلاق النار أو تقاسم السلطة أو حتى طرح سيناريوهات “الفدرالية أو التقسيم”.
من هذا المنطلق، يرى حميدتي أن اللحظة الراهنة — بعد اكتمال سيطرته الميدانية في الغرب — هي الأنسب لبدء التفاوض، لأنه يدخل طاولة الحوار من موقع قوة، لا كطرف منهزم.
وإذا أُجبرت الأطراف الدولية على فرض هدنة أو تسوية سياسية، فإنه سيكون قادرًا على القول إنه يملك أرضًا، وسكانًا، وإدارة موازية، وبالتالي “وزنًا تفاوضيًا” لا يمكن تجاهله.
بين التكتيك والمأزق
لكن، في المقابل، يواجه حميدتي معضلة مزدوجة: فهو يسعى إلى كسب الشرعية السياسية في الخارج، بينما يفقدها في الداخل.
الدماء التي سالت في دارفور، والانتهاكات التي طالت المدنيين، جعلت صورته في الوجدان الشعبي السوداني صورة القائد الميليشياوي لا السياسي الوطني.
كما أن ظهوره المتكرر عبر مقاطع مصوّرة فقط، واختفائه عن الميدان، جعلاه — في نظر كثيرين — “قائد الظل” الذي يُصدر الأوامر من بعيد، لا من قلب المعركة.
أما الجيش السوداني، الذي ما زال يحتفظ بالسيطرة على الخرطوم والولايات الشرقية والشمالية، فيتعامل مع مقترحات الهدنة باعتبارها محاولة لإعادة ترتيب صفوف الدعم السريع أكثر من كونها خطوة صادقة نحو السلام.
خلاصة المشهد
إن سعي حميدتي نحو الهدنة ليس تحولًا أخلاقيًا بقدر ما هو مناورة سياسية محسوبة تهدف إلى تثبيت مكاسب ميدانية في صيغة تفاوضية، وإعادة تعريف دوره أمام المجتمع الدولي.
لكنّ هذه المناورة تصطدم بجدار واقع داخلي متشظٍّ، ومزاج شعبي غاضب، ومشهد إقليمي متشابك لا يسمح بسهولة بإعادة تأهيل أي طرف متورط في الدم السوداني.
وهكذا، فإن الهدنة التي يطلبها حميدتي ليست بالضرورة بوابة للسلام، بل قد تكون هدنة من أجل إعادة التموضع، وانتظار لحظة جديدة يظن أنها ستمنحه شرعية يفتقدها حتى الآن.
أما السودان، الذي أنهكته الحروب والمجاعات، فلا يبدو أنه مقبل على انفراج قريب، ما دامت الأطراف المتحاربة ما زالت ترى في التفاوض ساحة جديدة للغلبة، لا فرصة أخيرة للنجاة.