أخر الأخبار

عمرو خان يكتب: صالح الجعفراوي.. الكاميرا التي لم تُطفأ حتى الشهادة

في لحظةٍ خُيِّل فيها أن صوت الحرب بدأ يخفت، وأن نيران غزة أُطفئت ببيانٍ للسلام، خطف الموت منّا ضوءًا كان يصرّ على أن يُبقي الحقيقة حيّة. رحل صالح الجعفراوي، المراسل الشاب الذي أصرّ أن يكون شاهدًا حتى الرمق الأخير. استُشهد غدرًا، بعد أن أتمّ رسالته الإنسانية والإعلامية في غزة، تاركًا وراءه أثرًا لا يُمحى في ذاكرة العروبة والإعلام الحر.

عدسة من قلب النار

لم يكن صالح الجعفراوي مجرّد مراسل ينقل مشاهد الدمار، بل كان عينًا للأمل وسط الركام، ولسانًا للشعب الذي لا يجد من ينقل صوته إلى العالم. وُلِد في غزة عام 1997، وتخرّج من كلية الإعلام بالجامعة الإسلامية، ثم انضمّ إلى فريق الجزيرة ليغدو أحد أبرز وجوه الصحافة الميدانية في فلسطين.

تميّز صالح بقدرته على الجمع بين المعلومة الدقيقة والمشهد الإنساني المؤثر. عدسته كانت تلتقط الألم، لكن صوته كان يحمل الرجاء. صوّر بيوتًا تهدمت، ووجوهًا أرهقتها الحرب، وأطفالًا ما زالوا يبتسمون رغم كل شيء. وفي كل مرة، كان يهمس بكلمته الأثيرة: “سنروي الحكاية، مهما كلّف الأمر.”

استشهاد الكلمة قبل الجسد

في مساء السبت 12 أكتوبر 2025، وبينما كان يوثّق لحظة فرحٍ نادرة بوقف إطلاق النار وإعلان اتفاق السلام، سقط صالح برصاصٍ غادر. سبع طلقات أنهت حياة شاب لم يحمل إلا كاميرا وصوتًا. مشهد رحيله كان أقسى من الحرب نفسها، لأن يد الغدر امتدت لتصمت صوتًا لم يكن يملك إلا ضوء العدسة.

تضاربت الروايات حول الجهة المنفّذة، لكن المؤكد أن صالح كان مستهدفًا، كما استُهدف من قبله زملاء كثر في غزة، لأن الحقيقة تخيف من يتربّصون بالنور.

رسالة لا تموت

رحل الجعفراوي جسدًا، لكن رسالته بقيت تتردّد في وجدان كل صحفي عربي حر. ترك خلفه دروسًا في الميدان: أن الصحافة ليست وظيفة، بل شهادة بالحق. أن الكاميرا ليست آلة، بل ضمير حيّ. وأن مَن يختار طريق الحقيقة، عليه أن يدرك أن الثمن قد يكون حياته.

أصدقاؤه وزملاؤه في الجزيرة نعوه بقلوبٍ مكلومة، مؤكدين أن صالح لم يكن يومًا باحثًا عن مجدٍ شخصي، بل كان “صوتًا للناس الذين بلا صوت”. كلماتهم عنه لم تكن رثاءً بقدر ما كانت استمرارًا لرسالته.

دمٌ لا يُنسى

دماء الجعفراوي لم تذهب سدى. فهي اليوم عنوانٌ لكرامة المهنة، وشاهدٌ على أن الحقيقة لا تموت ولو استُشهد حاملوها. ففي كل مرة يسقط فيها صحفي على تراب غزة، تنبت في الأرض شجرة ذاكرة جديدة، تُذكّرنا أن الحرية لا تُروى إلا بالصدق، وأن الكلمة لا تُخمدها الرصاصات.

لقد خسرنا صالح الجعفراوي، لكننا كسبنا رمزًا. كسبنا درسًا في أن الإنسانية هي أقوى من الحصار، وأن الصحافة ليست حيادًا أمام الجريمة، بل انحيازٌ إلى الإنسان. استُشهد صالح بعد أن اطمأنّ قلبه لوقف النار، كأنما أراد الله أن يريحه بعد أداء الأمانة.

رحم الله الشهيد صالح الجعفراوي، وبارك في كل صحفي يصرّ على أن يحمل الكاميرا رغم الظلام. فالعدسة التي أُطفئت في غزة ستظل تضيء لنا درب الحقيقة في كل أرضٍ تنزف وتنتظر من يروي حكايتها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى