أخر الأخبار

عمرو خان يكتب: حكايتي مع رجل قلّما جاد به الزمان..محمد طاهر إيلا (2)

القاهرة 2008.. قبل العاصفة

القاهرة 2008.. قبل العاصفة

كانت القاهرة في مطلع عام 2008 تتقلب بين رياح الأزمة الاقتصادية العالمية، وحرارة النقاشات في مقاهي وسط البلد، تلك المنطقة التي تشبه متحفًا مفتوحًا للروح المصرية.
هناك، في زوايا مقهى «زهرة البستان» أو على أرصفة «باب اللوق» و«شارع شامبليون»، كنت أتنقل كطائرٍ يبحث عن معنى جديد للحياة، أُعدّ موادًّا ثقافية قصيرة للقنوات الفضائية، وأوثّق حكايات الناس بين الشعر والموسيقى والسياسة، دون أن أملك يقينًا بأن ما أفعله يمكن أن يُسمى مهنة.

كانت القاهرة تضج بالحياة رغم شحّ الأمل، وكانت جيوبنا فارغة إلا من الحلم.
ومع تضاؤل العائد من عملي، وغلاء كل شيء من فنجان القهوة إلى إيجار الغرفة، بدا لي أن المدينة بدأت تهمس في أذني قائلة: ابحث عن مكان آخر لتتنفس فيه.”
وفي تلك اللحظة تحديدًا، جاءني صوت من الماضي، من بورتسودان البعيدة — صديقي القديم — يحمل عرضًا من والده، الرجل الذي استضافني ذات صباح على كورنيش (سي لاند)، حين كانت السماء الزرقاء تتنفس ببطء فوق البحر الأحمر.

عرض عليّ السفر مجددًا إلى بورتسودان، لدراسة مشروع تطوير الكورنيش الذي كنت قد اقترحته عابرًا في حديث سابق.
لكن قلبي لم يكن جاهزًا، لا للسفر ولا للمغامرة.
فالقاهرة رغم قسوتها كانت قد صارت بيتي، ومقهى «ريش» مكتبي، ودفاتر القصاصات هي مملكتي الصغيرة.

طلبت منه مهلة خمسة عشر يومًا لترتيب أموري.
إلا أن صديقي عاد إليّ بعد ساعات بلهجة متوترة:

“أبوي قال لي يا زول، ما عندنا زمن كتير. الراجل المهم دا داير يشوف العرض في خلال أسبوع، يعني لازم تكون هنا قبل كدا.”

ابتسمت وأنا أقرأ الرسالة، ثم أرسلت إليه ردي المختصر:

“الرحلات إلى السودان ما بتنفع بالعجلة، يا صديقي. خلينا على مهلة الخمستاشر يوم.”

لكن الضغط ازداد.
كانت بورتسودان هناك، تلوّح لي بيدٍ من بحرٍ أزرق، بينما القاهرة تُمسكني من معصمي بيدٍ أخرى من دخان وحنين.
وأمام هذا الشدّ الخفي بين مدينتين، جاء الحل الوسط: مكالمة هاتفية مباشرة مع والد صديقي.

في تلك المكالمة، كان صوته يحمل هيبة التجربة ونبرة رجل يعرف تمامًا ما يريد.
تحدثنا طويلًا عن مشروع التطوير، عن جمال الكورنيش وإمكاناته، عن السياحة، وعن البحر الذي لم يأخذ نصيبه من الحلم بعد.
لكن حين عاد ليكرر طلبه بالإسراع في السفر، قلت له بابتسامة أسمعها حتى الآن:

“يا عمِّي، اسمح لي أرسل لك بريزنتيشن للمشروع، تعرضه بنفسك على الوالي، لحد ما أكون جاهز للحضور.”

تردد قليلًا، ثم قال بصوتٍ فيه شيء من الإصرار والقلق:

“أنا يا ولدي ما بعرف أعرض مشاريع. دا شغل ناسكم أنتو.”

فأجبته بنبرة هادئة:

“خليها على ولدك، هو خير من يقدمها.”

وبعد لحظة صمت، قال الرجل عبارته التي لم أنسها يومًا:

“طيب، نعمل كدا. لكن خلينا على اتصال، لأنو الأمور ما بتستنى.”

أغلقت الهاتف، وأنا أشعر بشيء يشبه الارتياح الممزوج بالخسارة.
ربما لأنني كنت أهرب من القرار أكثر مما أبحث عن التنفيذ.
تسللت إلى شوارع وسط البلد من جديد، أختبئ خلف زجاج المقاهي، وأراقب المارة في صمتٍ كمن يؤجل موعدًا مع قدرٍ يعرف أنه قادم لا محالة.

مرت ثلاثة أيام، ثم جاء الاتصال المنتظر:
كان صوت الرجل نفسه، هذه المرة بنغمة انتصار:

“يا ولدي، المقترح اتقبل. الوالي وافق عليه والدعم المالي جاهز. فاضل ليك تمان أيام بس للسفر.”

في تلك اللحظة سكتّ.
كانت القاهرة من حولي تضجّ بالضجيج المعتاد، لكنني شعرت بأن الزمن توقف، وأن صوت البحر الأحمر يتسرّب خلسة إلى مسامعي من قلب الخرائط البعيدة.

ثمانية أيام فقط، ثم بورتسودان من جديد.
ثمانية أيام تفصلني عن لقاء لم أعرف وقتها أنه لن يحدث وقتها؛ بل كان الفرصة الضائعة الأولى للقاء الدكتور محمد طاهر إيلا.

ولم أكن أعلم أن القدر كان قد رسم خطوطه بالفعل، وأن ما تأخرت فيه يومًا واحدًا، سيعود إليّ بعد أعوام طويلة كصفحة مفتوحة من ذاكرة لم تغلق أبدًا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى