
في مساء الأربعاء 29 أكتوبر 2025، خرج قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، بخطابٍ مطولٍ بدا وكأنه محاولة مدروسة لإعادة صياغة صورته أمام الداخل السوداني والمجتمع الدولي. الخطاب، الذي وُجّه إلى رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وإلى الشعب السوداني وأهالي الفاشر، حمل في طياته نغمة دفاعية واضحة؛ إذ سعى حميدتي لتبرئة قواته من الانتهاكات التي شهدتها مدينة الفاشر، ملقيًا بالمسؤولية على “مجموعة من الدواعش” ، في روايةٍ حاول من خلالها نزع صفة التورط المباشر عن نفسه وعن قيادته.
الرسائل التي ضمّنها حميدتي في خطابه لم تقتصر على الداخل، بل امتدت إلى المنظمات الدولية والهيئات الإنسانية. فقد شدد على أن مسارات الإمدادات الإغاثية إلى الفاشر مفتوحة “منذ اليوم الأول للقتال”، مؤكدًا أنه لا عوائق أمام وصول المساعدات.
ورغم أن هذا التصريح بدا ظاهريًا كضمان إنساني، إلا أنه يحمل بين سطوره محاولة لإعادة بناء الثقة مع المجتمع الدولي الذي تتزايد انتقاداته لانتهاكات قوات الدعم السريع في دارفور. بدا الخطاب هنا كأنه يوجّه رسالة مزدوجة: تهدئة الداخل وكسب الخارج في آنٍ واحد.
لكن اللافت في خطاب حميدتي هو سعيه الحثيث لتصوير نفسه كرجل دولة يسعى إلى العدالة والمساواة، لا كزعيم ميليشيا أو أمير حرب. فقد كشف – بحسب قوله – عن اتفاقيات جرت بينه وبين الجيش السوداني، متهمًا خصومه في القيادة العسكرية بـ”الانقلاب على الدولة طمعًا في الحكم”، محاولًا بذلك تحويل دفة الصراع من حربٍ بين ميليشيا وجيش، إلى حربٍ سياسية بين دعاة السلطة ودعاة العدالة.
غير أن هذه اللغة التي تتحدث عن “إنقاذ السودان” و”الحرص على الشعب”، تتناقض بوضوح مع واقع الميدان، حيث لا تزال التقارير الحقوقية تتحدث عن جرائم وانتهاكات جسيمة في مناطق سيطرة قواته.
يمكن قراءة خطاب حميدتي في سياق أوسع من مجرد تبرير موقف أو دفع اتهامات؛ فهو خطاب أزمةٍ بامتياز، جاء في توقيتٍ بالغ الحساسية مع تصاعد الضغط الدولي وتزايد عزلة قيادته. في الوقت الذي يواجه فيه الدعم السريع اتهامات بالإبادة والانتهاكات، يحاول زعيمه إعادة تقديم نفسه كلاعبٍ سياسي يمكن التفاوض معه، لا كقائدٍ ميداني فقد السيطرة على جنوده.
بهذا المعنى، كان خطاب حميدتي أقرب إلى مرافعة سياسية أمام محكمة الرأي العام، منه إلى خطاب عسكري لقائدٍ في ساحة الحرب.
في النهاية، يمكن القول إن حميدتي، بخطابه هذا، حاول أن يُنقذ ما يمكن إنقاذه من صورته، وأن يقدّم روايته الخاصة قبل أن يكتب الآخرون التاريخ. غير أن ما تجاهله الخطاب هو الحقيقة الأكثر حضورًا: أن الحرب في السودان لم تعد صراعًا على الشرعية أو السلطة، بل تحولت إلى مأساة وطنية يدفع ثمنها الأبرياء. وبين خطاب يبرر، وواقعٍ يصرخ بالدم، يبدو أن الفجوة بين القول والفعل تتسع كل يوم أكثر.