
تحليل استراتيجي -عمرو خان
ظهور الفريق أول عبد الفتاح البرهان اليوم في غرب أم درمان وسط حشود من المواطنين، دون حراسة ثقيلة أو سيارة مصفحة، ليس حادثًا عابرًا؛ بل هو جزء من استراتيجية عميقة ومركّبة تعكس مزيجًا من القوة الرمزية، الرسائل الموجهة للميدان، والحسابات السياسية. فعندما يتجول القائد العام للقوات المسلحة بين الناس، يحتضنهم ويحتسي معهم القهوة أو الشاي، فإن ذلك لا يعبّر فقط عن التواضع أو البساطة: إنه تأكيد على رسالة مضادّة للصور النمطية عن القادة العسكريين المنعزلين، رسالة تقول إن الجيش ليس غريبًا عن الشعب، بل جزء من نسيجه الاجتماعي وتاريخه اليومي.
من الناحية النفسية، فإن هذا النوع من الظهور له أثر مزدوج على المقاتلين في الجبهات. أولًا، يقدم البرهان نفسه ليس مجرد قيادة عسكرية بعيدة، بل قائد قريب من الواقع المدني، مما يعزز الشرعية أمام الجنود الذين يناضلون في ظروف صعبة. ثانيًا، يرسل رسالة مطمئنة للذراع القتالي بأن القيادة العليا تشعر بمعاناتهم، وترى بهم الناس الذين تدافع عنهم، وليس مجرد أدوات في معادلة القوة. هذه الرسالة يمكن أن ترفع الروح المعنوية على الجبهات، وتخلق رابطًا نفسيًا بين القيادة والمدنيين، ما يقلل من المسافة بين من يقاتلون ومن يديرون المعركة.
من الناحية الرمزية، فإن تكرار مثل هذه الزيارات إلى مدن مثل أم درمان أو مناطق شهدت معارك سابقًا – حتى لو لم تكن جبهات حالية – يعبّر عن رغبة في استعادة الوجود المؤثر للجيش في تلك المناطق، كأنه يُعيد تأكيد السيادة والهيمنة. فالمشهد ليس مجرد استقبال شعبي: هو استعادة لرمزية القوة، رسالة مفادها أن الجيش يسيطر على الأرض وليس مجرد قوة ميدانية، بل لديه قدرة على الوجود الدائم والظاهر في قلب المدن.
هذا التوجه الشعبي يعكس أيضًا استراتيجيا سياسية، وليس فقط عسكرية. فالبرهان هنا لا يبني صورته كقائد حربي فحسب، بل كقائد شعبي، زعيم قريب من الناس، قادر على التواصل معهم بطريقة إنسانية وبسيطة. هذا قد يُستخدم في خطاب داخلي ودولي: داخليًا لتعزيز ولايته في أوساط المواطنين كمنقذ أو حافظ للنظام، ودوليًا لامتصاص الانتقادات حول الشرعية والمساءلة، من خلال إظهار الوجه المدني والإنساني للقائد العسكري.
من المهم أيضًا النظر إلى الجانب الأمني: الظهور دون حماية مبالغ فيها، والسيارات غير المصفحة، يرسل رسالة بالقوة والثقة. هذا لا يعني غياب المخاطر لكنه يعكس جرأة مقصودة. في سياق الصراع الحالي، حيث الجبهات متعددة والتوترات مرتفعة، المخاطرة بظهور من هذا النوع تحمل بعدًا رمزيًا: “نحن لسنا خائفين، نحن نثق بأننا نستطيع التواجد بينكم”، وهذه رسالة تطمئن المدنيين على التزام القيادة بحمايتهم، وفي الوقت ذاته تُظهر للمناوئين أن القائد لا يختبئ خلف تحصينات.
على صعيد المعارك، هذا التوجه الشعبي يمكن أن يكون جزءًا من استراتيجية توتر منخفض مؤقت لتثبيت المكاسب الميدانية. فبعد انتصارات أو تحركات مهمة، قد تكون هذه الزيارات وسيلة لتعزيز مكاسب الأرض عبر دعم شعبي مباشر. يظهر البرهان أمام الجماهير في المناطق التي تعاني أو التي شهدت نزاعات، كإعلان أن القوات المسلحة ليست مجرد قوة احتلال أو قوة عابرة، بل هي قوة شرعية معتمدة من المجتمع ذاته.
لكن هذا النهج يحمل مخاطره أيضًا. فالاكتفاء بالجانب الرمزي دون تحقيق مكاسب ميدانية واضحة على الأرض قد يجعل هذه الزيارات تبدو كمسرح سياسي أكثر من كونها جزءًا من استراتيجية عسكرية حقيقية. إذا لم يتبع الظهور الشعبي بتحركات ميدانية قوية، قد يشكك البعض في جدية التأثير أو الشرعية الحقيقية لهذا التواصل. هناك أيضًا مخاطِر تتعلق بالأمن الشخصي للقيادة: الظهور بين المدنيين قد يعرضها لمخاطر في بيئة غير مستقرة، خاصة إذا كانت هناك فصائل متمردة أو تهديدات من الخصوم.
من المنظور الأوسع، هذه الزيارات قد تكون جزءًا من محاولات البرهان لتقوية موقعه كقائد الدولة بعد سنوات من الصراع السياسي والعسكري. فإظهاره كقائد قريب من المواطنين يدعم موقعه في الداخل ويزيد من رصيده السياسي. في الأثناء، استمراره في هذا النمط من التواصل يمكن أن يعزز من فكرة “الجيش الحامي للشعب” أمام خصومه، سواء من ميليشيات الدعم السريع أو الفصائل المسلحة الأخرى.
في النهاية، ظهور البرهان وسط الجماهير في غرب أم درمان هو أكثر من مجرد “عرض شعبوي”: إنه أداة استراتيجية متعددة الأبعاد. هي أداة لتحصين الروح المعنوية، لربط القيادة بالمواطن، لإرسال رسائل ميدانية ورسائل سياسية، ولإظهار قوة رمزية ميدانية حقيقية. لكن نجاح هذه الأداة يعتمد على التوازن: التوازن بين الظهور الرمزي والتحركات الميدانية، بين السلامة الأمنية والجرأة، وبين الوظيفة السياسية والعسكرية. إذا استمر البرهان بهذا الأسلوب، فقد يعزز ليس فقط من صورته القيادية، بل أيضًا من دوره في توجيه مسار النزاع لصالح القوات المسلحة، مما يترك أثرًا ملموسًا على مستقبل المعارك واستقرار بعض المناطق الحيوية في السودان.