
جنيف – عمرو خان
KHAN NEWS: في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تبرز السودان وقطاع غزة كأكثر الساحات الدامية التي تعيد تشكيل خريطة النزوح القسري في العالم، ففي الوقت الذي يدفع فيه النزاع السوداني الملايين إلى الهروب من العنف الطائفي والانهيار الاقتصادي، يعيش سكان غزة واحدة من أقسى الكوارث الإنسانية الحديثة، حيث لم يعد النزوح مجرد خيار، بل ضرورة للبقاء. هاتان الأزمتان لا تمثلان فقط حالات طارئة، بل تعكسان نمطًا دوليًا متكررًا من العجز عن كبح التهجير القسري في ظل تفاقم العنف وتآكل منظومة الحماية الدولية.
وفي سياق يتسم بتصاعد وتيرة النزاعات المسلحة وتآكل منظومة الحماية الإنسانية الدولية، كشف تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن بلوغ عدد النازحين قسرًا حول العالم رقمًا غير مسبوق، حيث تجاوز 122.1 مليون شخص بحلول نهاية أبريل 2025.
ويعكس هذا الرقم ـ الذي يُعد الأعلى في تاريخ الرصد الإحصائي الحديث ـ صورة قاتمة لمستقبل التهجير والنزوح القسري، مع تصدّر أزمات مثل الحرب في السودان والعدوان المستمر على قطاع غزة قائمة مناطق الطرد الجماعي للسكان.
التهجير كأداة حرب
لم يعد النزوح القسري مجرد عرض جانبي للنزاعات، بل أصبح في حالات كثيرة نتيجة مباشرة لاستراتيجيات ممنهجة، تتضمن الحصار والتجويع والقصف العشوائي وتفكيك البنية المجتمعية.
في هذا السياق، يُنظر إلى الحرب في السودان والحملة الإسرائيلية على غزة بوصفهما مثالين على النزوح المركب، حيث يختلط العنف المسلح بالأزمات الاقتصادية وانهيار مؤسسات الدولة، مع غياب أي مظلة سياسية دولية لحماية المدنيين أو تسهيل عودتهم الآمنة.
السودان: حرب بلا أفق ونزوح بلا خريطة
منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يواجه السودان واحدة من أعقد موجات النزوح في القارة الإفريقية، فقد أشارت المفوضية إلى أن أكثر من 8.2 مليون شخص قد نزحوا داخل السودان أو فروا إلى دول الجوار مثل تشاد ومصر وجنوب السودان.
ويأتي هذا النزوح في ظل انعدام الأمن، وتدهور الرعاية الصحية، وندرة الغذاء، ما حول السودان إلى بؤرة مفتوحة لأزمة إنسانية طويلة الأمد.
اللافت أن النزوح في السودان لم يعد مجرد حركة طارئة للهروب من المعارك، بل أصبح تنقلًا دوريًا داخل مناطق تتغير فيها خطوط السيطرة باستمرار، هذا “النزوح المتكرر” يحول المدنيين إلى مجموعات متنقلة دون حماية قانونية أو إنسانية كافية، وسط غياب حلول سياسية أو حتى وقف مؤقت لإطلاق النار.
غزة: نزوح داخل الجدران
في الجهة الأخرى من الجغرافيا، يتفاقم الوضع في قطاع غزة بوتيرة متسارعة، حيث يعيش السكان في ظل حصار مطبق منذ أكثر من 18 عامًا، تضاعف ثقله مع الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في أكتوبر 2023، ووفقًا للمفوضية، فقد نزح أكثر من 1.7 مليون فلسطيني داخل القطاع نفسه، وهو ما يعني أن ما يزيد عن 75% من سكان غزة باتوا بلا مأوى، أو يعيشون في مدارس وملاجئ مؤقتة، أو في العراء.
وتؤكد المفوضية أن تحديات الوصول الإنساني في غزة تفوق مثيلاتها في أي ساحة نزاع أخرى، بسبب القيود العسكرية الإسرائيلية، واستهداف قوافل الإغاثة، وانهيار الخدمات الطبية والبنية التحتية، ويمثل هذا النزوح الداخلي نموذجًا نادرًا في العالم، حيث لا يجد النازحون منفذًا للخروج من منطقة الحرب، ولا مساحة آمنة كافية داخلها.
العوامل الهيكلية: بين العنف والمناخ والتجويع
تشير المفوضية إلى أن النزوح القسري لم يعد ناتجًا حصريًا عن الحرب، بل هو حصيلة تفاعلات معقدة بين الصراع المسلح، وتغير المناخ، وانهيار الاقتصادات المحلية، وزيادة الفقر المدقع.
وعلى سبيل المثال، ساهم الجفاف في القرن الإفريقي والفيضانات في آسيا وأمريكا الجنوبية في تهجير عشرات الآلاف، دون وجود ضمانات للعودة أو لإعادة التوطين.
ويُضاف إلى ذلك استخدام أدوات الحرب الاقتصادية مثل الحصار والعقوبات وحرمان المدنيين من الخدمات الأساسية، كوسائل ضغط سياسية تُنتج نزوحًا قسريًا ممنهجًا، كما هو الحال في اليمن وسوريا وفنزويلا.
عودة جزئية للسوريين: حالة خاصة لا تعكس الاتجاه العام
رغم الصورة القاتمة، يشير التقرير إلى عودة محدودة لعدد من اللاجئين السوريين، لا سيما من ألمانيا ودول أوروبية أخرى، بعد إطاحة نظام الرئيس بشار الأسد في ديسمبر 2024، وقد استغلت بعض العائلات ما اعتبر “فرصة سياسية نادرة” للعودة إلى المناطق التي تراجعت فيها مستويات العنف، لكنها تبقى عودة جزئية لا ترقى لأن تكون نموذجًا عامًا، خاصة في ظل غياب ضمانات دولية حقيقية لسلامتهم أو لإعادة دمجهم اقتصاديًا واجتماعيًا.
نحو نظام حماية عالمي مهدد بالانهيار
تؤكد المفوضية أن وتيرة الزيادة في أعداد اللاجئين والنازحين تنذر بانهيار منظومة الحماية الدولية التقليدية، خاصة في ظل قصور الدعم المقدم لوكالات الإغاثة، وتراجع التمويل المخصص للبرامج الإنسانية، ورفض بعض الدول الكبرى استقبال لاجئين جدد.
كما عبرت المفوضية عن قلقها العميق من شيطنة اللاجئين في الخطابات السياسية الشعبوية، التي تصاعدت في أوروبا وأمريكا الشمالية، والتي تخلق بيئة غير مرحبة وتعزز مناخ الكراهية والتمييز بحق النازحين.
إحصاءات رئيسية – أبريل 2025:
|
|
122.1 مليون شخص | إجمالي النازحين قسرًا حول العالم |
8.2 مليون | نازحو السودان |
1.7 مليون | نازحو قطاع غزة |
13.5 مليون | لاجئون سوريون (إجمالي منذ 2011) |
40% تقريبًا | نسبة الأطفال ضمن النازحين |
| تركيا، ألمانيا، إيران، كولومبيا، أوغندا | أعلى الدول استقبالًا للاجئين |
| 18 مليون شخص | لاجئون في أوروبا |
الحاجة إلى استراتيجية شاملة تتجاوز الإغاثة
أرقام المفوضية ليست فقط إشارات إنذار، بل دعوة صريحة لإعادة النظر في البنية الأخلاقية والقانونية للنظام الدولي، فالعالم لا يحتاج فقط إلى مزيد من الخيام والغذاء، بل إلى رؤية جديدة تعيد الاعتبار للحق في الحياة الكريمة والعودة الآمنة، وتضع حدًا لتسييس المساعدات واستخدام البشر كأوراق ضغط.
إن النزوح القسري ليس أزمة مؤقتة، بل ملمح دائم في خريطة العالم اليوم، وغياب الاستجابة الجذرية سيحوله من استثناء إنساني إلى واقع دائم يهدد استقرار المجتمعات والنظام الدولي برمته.