أخر الأخبار

من القاهرة إلى لندن.. حين يتحول اللاجئ إلى مهرب

سقوط تاجر الموت

عمرو خان

“في قلب الظلام.. رحلة لا عودة منها”

في شقة صغيرة متواضعة جنوب لندن، جلس أحمد عبيد، رجل في بداية عقده الرابع، يتحدث بصوت خافت عبر هاتف مشفر، لم يكن يبيع بضاعة تقليدية، ولا يتعامل مع عملاء معتادين، كان “زبائنه” بشراً، يبحثون عن الحياة بأي ثمن، على الجانب الآخر من المكالمة، كان شريكه في ليبيا يجهّز قاربا مطاطيا جديدًا، جاهزًا لحمل عشرات المهاجرين في رحلة محفوفة بالموت نحو أوروبا.

لم يكن هذا مجرد مشهد عابر في مسلسل عن الجريمة المنظمة، كان هذا جزءاً من شبكة حقيقية، متشابكة الخيوط، امتدت من شواطئ طرابلس إلى موانئ إيطاليا، ووصلت خيوطها حتى قلب بريطانيا.

رجل واحد – مصري الجنسية – كان يقود جانباً مظلماً من هذه المنظومة: أحمد عبيد، الاسم الذي أصبح عنوانًا للحكم القضائي الذي صدر مؤخراً في لندن، بالسجن 25 عاماً بتهمة التواطؤ في تهريب آلاف المهاجرين.

“من القاهرة إلى لندن.. حين يتحول اللاجئ إلى مهرب”

لم يكن عبيد معروفًا في سجلات الجريمة حين وطأت قدماه الأراضي البريطانية في أكتوبر 2022، مدعيًا أنه يبحث عن ملاذ آمن، حاله كحال آلاف المهاجرين الفارين من الفقر أو الحروب.

لكن لم تمر أشهر قليلة، حتى بدأت خيوط نشاطه تظهر للسلطات البريطانية. فقد استغل عبيد هويته الجديدة كلاجئ ليخفي خلفها مشروعًا جهنميًا كان قد بدأ في رسم ملامحه قبل وصوله إلى أوروبا.

داخل غرفته بلندن، كان يُدير شبكة عابرة للحدود، تتولى تهريب البشر من ليبيا إلى إيطاليا مقابل مبالغ ضخمة، وصلت إلى أكثر من 3200 جنيه إسترليني عن كل شخص، لم يكن وحده، بل تعاون مع آخرين لتوفير القوارب، وتأمين نقاط الانطلاق، والتسويق لرحلات العبور عبر مجموعات على موقع فيسبوك، استهدفت آلاف الراغبين في الوصول إلى “الفردوس الأوروبي”، دون أن يعلموا أن ثمن الرحلة قد يكون حياتهم.

“البيت المراقب.. عندما تكشف الجدران الأسرار”

لم يكن عبيد يعلم أن كل همسة داخل منزله كانت تُسجل. في عملية معقدة نفذتها الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة البريطانية، تم زرع أجهزة تنصت داخل مسكنه في جنوب لندن، بعد أن بدأت الشبهات تدور حوله عقب اعتراض عدد من القوارب المحملة بالمهاجرين قبالة السواحل الإيطالية.

ومن داخل ذلك البيت، انكشفت أسرار شبكة التهريب. في أحد التسجيلات، سُمع عبيد وهو يعطي تعليمات صارمة لشركائه بعدم السماح لأي مهاجر بحمل هاتف جوال على متن القوارب، قائلاً: “أخبرهم أن من يُمسك ومعه هاتف سيُقتل ويُلقى في البحر”.

لم يكن مجرد تهديد أجوف، بل تعبير عن منطق سوق سوداء لا ترحم، حيث تُدار أرواح البشر كسلع، وتُقاس الرحلة بمدى القدرة على دفع الثمن وتجنب إثارة الانتباه.

أظهرت التسجيلات أن عبيد لم يكن مجرد وسيط، بل قائد فعلي في شبكة تنشط على مستوى شمال إفريقيا وأوروبا، وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للإيقاع بالضحايا، من خلال وعود كاذبة بالوصول الآمن والحياة الجديدة.

“شبكة بلا رحمة.. سبعة معابر و3800 حلم محطّم”

بين أكتوبر 2022 ويونيو 2023، رصدت السلطات البريطانية سبع محاولات تهريب واسعة انطلقت من السواحل الليبية نحو أوروبا، تورط فيها عبيد بشكل مباشر، ومع كل محاولة كان الحلم يعلو في صدور الآلاف، قبل أن يتحطم على صخور البحر أو يُجهض على يد أجهزة الأمن الأوروبية.

نحو 3800 مهاجر — معظمهم من الفارين من الفقر أو الحرب أو اليأس — تم اعتراضهم في تلك العمليات، لم يكونوا أرقامًا في تقارير أمنية، بل رجالًا ونساءً وأطفالًا اختزلهم عبيد وشبكته في “وحدات”، بحسب ما كشفه القاضي في جلسة النطق بالحكم.

كان متوسط ما يُدفع لقاء “الرحلة إلى الحلم” يتجاوز 3200 جنيه إسترليني للفرد، ما يعني أن عبيد وشركاءه جنوا ملايين الجنيهات من معاناة هؤلاء البشر، وكلما زاد عدد العابرين، زاد هامش الربح. أما المخاطر — من غرق، أو اكتشاف أمني، أو حتى موت جماعي — فلم تكن واردة في حسابات السوق.

“في قفص العدالة.. كلمة القاضي التي هزّت القاعة”

في قاعة محكمة “ساذارك كراون” بالعاصمة البريطانية، جلس أحمد عبيد مكبل اليدين، يواجه العدالة التي طاردته طيلة أشهر. القاضي “آدم هيدلستن”، لم يقرأ الحكم فقط، بل رسم صورة كاملة لما وصفه بـ”الاستغلال البشع للبشر”.

بصوت حازم قال القاضي:

“لقد عاملتم هؤلاء المهاجرين وكأنهم مجرد سلع… وحدات. لم يكن يهمكم إن وصلوا أحياء أم غرقوا في البحر، بل فقط أن يدفع كل منهم الثمن الباهظ. لقد استغليتم آمالهم باستهزاء، وتعاملتم معهم بلا رحمة”.

الكلمات لم تكن فقط مرافعة قانونية، بل شهادة إنسانية تُدين منظومة كاملة من الإتجار بالبشر تتخفى خلف شاشات الهواتف ومنشورات فيسبوك ومراكب الموت، فعبيد، بحسب القاضي، لم يكن مجرد حلقة في سلسلة، بل “دورًا قياديًا” في شبكة كبيرة، لها أذرع إعلامية وتنظيمية ومالية.

وانتهى المشهد بالحكم: 25 عامًا خلف القضبان — رسالة قاسية لمن يفكر في المتاجرة بأرواح البشر، ومشهد ختامي لقصة بدأت على شواطئ ليبيا وانتهت في محكمة بلندن.

“صوت من الجحيم.. التنصت الذي كشف الوجه الحقيقي”

في صمت الليل البريطاني، كانت أجهزة التنصت التابعة لوكالة مكافحة الجريمة NCA ترصد الهمسات في منزل عبيد. تسجيلات صوتية، مكالمات متقطعة، وأوامر تُلقى بلغة الجريمة المجرّدة من الرحمة. من بين تلك التسجيلات، برزت عبارة وحشية، لا تُنسى:

“أخبرهم أن أي شخص يمسك وبحوزته هاتف… سيُقتل ويُلقى به في البحر”

كلمات قالها عبيد ببرود، موجّهة إلى أحد شركائه في تهريب البشر. كانت تلك الجملة كافية لتجعل المحققين يدركون أن الأمر تجاوز حدود التهريب إلى إرهاب صريح يُمارس ضد المهاجرين المساكين الذين دفعوا كل ما يملكون فقط ليحلموا بالنجاة.

التحقيقات كشفت أن عبيد لم يكن فقط منسقًا لعمليات النقل، بل كان يفرض قواعده القاسية على الركاب — ممنوع حمل الهواتف، ممنوع التحدث، ممنوع الاعتراض، فالمركب ليس وسيلة عبور، بل قفص للموت المؤجّل.

كانت هذه التسجيلات أحد الأدلة الدامغة التي أدت إلى سقوط الشبكة، وصوت عبيد، الذي استخدمه لإصدار الأوامر، أصبح فيما بعد شاهداً ضده أمام المحكمة.

“إحباط محاولات العبور.. 3800 مهاجر في قبضة القانون”

خلال فترة نشاط أحمد عبيد من أكتوبر 2022 حتى يونيو 2023، رصدت السلطات البريطانية 7 محاولات تهريب رئيسية انطلقت من ليبيا نحو إيطاليا، استهدفت ما يقرب من 3800 مهاجر، هذه الأعداد الكبيرة تعكس حجم الشبكة التي كان عبيد يشرف عليها.

وقد نجحت أجهزة الأمن في اعتراض تلك المحاولات بفضل تنسيق متقدم بين الوكالات الدولية، فكانت كل محاولة عبور تُشكل اختبارًا جديدًا لقوة هذه الشبكة الإجرامية، ولحسن الحظ كانت النهاية دائمًا لصالح إنقاذ الأرواح ومنعها من الوقوع في قبضة المهربين.

ومن خلال هذه الاعتراضات، تمكنت السلطات من تجميع أدلة قاطعة ضد عبيد وشركائه، ما ساهم في توجيه الاتهامات التي أدت إلى السجن 25 عامًا.

“السوق السوداء للمهاجرين.. دفع الأثمان الباهظة مقابل حلم أوروبا”

لم يكن دور أحمد عبيد مقتصرًا على تنظيم عمليات العبور فحسب، بل امتد إلى استغلال أحلام آلاف المهاجرين الذين دفعوا ثمناً باهظاً مقابل فرصة الوصول إلى أوروبا.

وبحسب التحقيقات، كانت الشبكة الإجرامية تروج لرحلات التهريب عبر منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك، حيث كانت تفرض على كل مهاجر متوسط رسوم تزيد على 3200 جنيه إسترليني.

هذه الأموال لم تكن مجرد رسوم عبور، بل كانت تمثل عبئًا مادياً هائلاً على كثير من هؤلاء اللاجئين الذين يأتون من ظروف معيشية صعبة وأحيانًا من مناطق تشهد نزاعات وحروبًا، واستغل عبيد وشركاؤه حاجتهم الماسة إلى الهروب من الواقع، وأحوّلوا أحلامهم إلى سلعة تُباع بأعلى سعر.

في تلك السوق السوداء، لم يكن المهاجرون أكثر من أرقام في حسابات عبيد، يتعامل معهم كمجرد عملاء يدفعون النقود، بغض النظر عن المخاطر أو المعاناة التي قد تواجههم في البحر.

“تنصت يكشف تهديدات قاسية.. ‘لا تحمِل هاتفاً أو الموت'”

في واحدة من أشهر حلقات هذا التحقيق، كشفت عمليات التنصت التي نفذتها الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في بريطانيا على منزل أحمد عبيد، جانبًا مظلمًا من أسلوبه الوحشي في إدارة عمليات التهريب.

فقد ظهر عبيد في تسجيل صوتي وهو يوجه تحذيراً صارماً لشركائه: «لا أسمح لأي مهاجر بحمل هاتف على القارب، من يمسك به سيُقتل ويلقى بجسده في البحر».

هذه التصريحات الصادمة تعكس قسوة تعامل الشبكة مع المهاجرين، الذين لم يكونوا بالنسبة لهم سوى أدوات لتحقيق مكاسب مالية، دون أي اعتبار لأرواحهم أو كرامتهم، وحذر عبيد من أن أي محاولة لإثارة الشكوك أو تعطيل عمليات التهريب ستقابل برد صارم، حيث كان ينظر إلى أي تهديد لعمله كتهديد لحياته الشخصية ولشبكته الإجرامية.

كشفت هذه التسجيلات تفاصيل هامة حول طبيعة المخاطر التي يعيشها المهاجرون في رحلتهم نحو أوروبا، بين استغلال متواصل وتهديدات مستمرة، وسط بحر من الصمت واللامبالاة.

“مأساة مستمرة.. بين الأمل والخراب”

تظل قصة أحمد عبيد واحدة من آلاف القصص المحزنة التي تنبع من مأساة الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط، حيث يغامر آلاف الناس بحياتهم هرباً من الفقر والصراعات، ليواجهوا في طريقهم استغلالاً قاسياً ومخاطر الموت.

رغم الحكم الصارم على هذه الشبكة الإجرامية، تبقى التحديات قائمة أمام المجتمع الدولي، الذي يجب أن يتعاون بجدية أكبر لمعالجة أسباب الهجرة ودعم المهاجرين ببدائل آمنة، والحد من نشاط المهربين الذين يستغلون أضعف الفئات.

قصة عبيد ليست فقط عن شخص واحد وحكم بالسجن، بل هي مرآة لمأساة إنسانية مستمرة تحتاج إلى استجابة شاملة من الحكومات والمنظمات الإنسانية والمجتمعات، كي لا يكون البحر المتوسط مقبرة جديدة لأحلام ومصير آلاف البشر الباحثين عن حياة أفضل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى