“حين يصبح الوطن ذاكرة: السودان كما رآه عمرو خان في مرآة الفراق”

دكتورة مدينة حسين دوسة-جامعة نيالا أستاذ مشارك بمركز دراسات السلام وتنمية المجتمع
بقلب يفيض صدقًا وعقل يزن الأمور بعمق، يقدم لنا الصحفي والكاتب القدير الأستاذ عمرو خان تحفة أدبية ومعرفية في كتابه “السودان وطن مصاب بمرض الفراق”.
هذا العمل ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو تشخيص دقيق لأنماط الداء التي فتكت بالجسد السوداني، مستنيرًا بمبدأ التآخي الذي جسده قول النبي محمد (ص): “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
رحلة في أعماق الأزمة السودانية:
الكتاب رحلة معرفية عميقة، جمع فيها الكاتب بين الرؤى التحليلية ومشاعره الإنسانية الصادقة، مؤكدًا أن القدرة على الشعور جزء أساسي لإنتاج عمل فني مبدع. لقد استلهم خان دراسات علمية مقنعة لفهم الأسباب الجذرية للصراعات، مثل:
- أزمة الهوية كما حللها فرانسيس دينق، والتي أدت إلى فشل في فهم جوهر النزاعات.
- ازدواجية المعايير بين الهوية والحداثة التي تناولها عبد الله علي إبراهيم، مما خلق صراعًا قيميًا حادًا.
- دور النظام القبلي وعلاقته بالصراع من خلال إضاءات القدال.
- تأثير الاستعمار والمنظمات والسياسات العالمية في تعزيز هذه الانقسامات.
الكتاب غني بالتحقيقات والتقارير من هيئات مرموقة مثل هيومن رايتس ووتش ومعهد الأزمات الدولية، بالإضافة إلى مقالات من مجلات أكاديمية، ومؤلفات جيفري هاركس وجولي واليكس عن مآسي الحرب والسلام. كما يعرض قصصًا وأحداثًا عن صراع دارفور للمؤرخ الفرنسي جيرار بيرونيير، وإطلالات من القنوات الفضائية مثل بي بي سي والجزيرة التي قدمت تفاصيل رائعة وجريئة.
عبقرية السرد وصدق التعبير
بإطار نظري محكم، ونموذج لقارئ نهم، وبعبقرية خارقة، ولغة مبدعة، ومخيلة واسعة، وأسلوب رائع، وتعبير سلس نصًا ولغة، عبّر الكاتب وحلل مشكلات المجتمع السوداني برؤى سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية. يكشف كيف تلاعب الساسة بعواطف الشعب الأبي، وكيف تشكلت علاقات القوى الاقتصادية وسيطرت على الموارد، مما أدى إلى التهميش وإثارة الفتن وخوض المعارك وإعلان الحروب، ثم تهجير المواطن المسكين وتشتيت شمل الأسر والفراق والتيه، والغرق في المحيطات والبحار، والتجوال في شوارع وعواصم بلدان العالم، والمكوث في مخيمات بصحارى قاحلة.
قصص تدمي القلوب وتبعث الأمل
الكتاب يشخص أنماط الداء التي تؤدي إلى الفراق بتحليل علمي وشعور عاطفي إنساني أخلاقي للمواقف المختلفة، وبسردية نابعة من قلب وعقل مفكر بارع. أما عن الأحداث القصصية الحقيقية في متن هذا الكتاب، فقد حققت مغزاها في قوة التأثير والثقة، لدرجة أنها قد تدفع القارئ إلى البكاء والإغماء أحيانًا، لأنها قصص واقعية شهدناها بأعيننا.
إنّ العطاء ليس فقط في الهدايا المادية، بل أعظم عطاء هو المواساة لمن يحتاجونها. وقد أعاننا الكاتب على كشف الداء، ونحن نعهده بأننا سوف نعالجه وإن طال الزمن.
دعوة للقراءة والتأمل
هذا الكتاب من كاتب قدير يجب علينا أن نغتنم قراءته وأن لا نجعله مدفونًا في جدار مكتباتنا، بل نقرأه بتمعن وتدقيق
يتجاوز كتاب “السودان وطن مصاب بمرض الفراق” مجرد التحليل النظري ليغوص في قصص إنسانية حقيقية، هي بمثابة شرائح حية من واقع السودانيين. هذه القصص ليست مجرد حكايات، بل هي صرخات ألم وهمسات أمل، تُجسّد بشكل ملموس ما يعنيه “الفراق” بكل أبعاده: فراق الوطن، فراق الأحباء، وفراق الذات.
الأمان الوهمي ورفيق الخوف الدائم: “ترك الأرض وراه هاربًا من الموت ليجد نفسه في مكان لا ينتمي إليه”. والسؤال المطروح في قمة الأهمية هل يمكن للهروب أن يطفئ نار الخوف؟ أم هذا الخوف يصبح رفيقًا دائمًا يحمل معه ذاكرة الألم؟ وكيف يمكن للإنسان أن يختار بين الأمان الخارجي والخوف الداخلي؟.
يسلط الكاتب الضوء على التناقض المرير بين السعي للأمان الخارجي والخوف الكامن في الداخل. السؤال الذي يطرحه ببراعة: هل الهروب يطفئ نار الخوف أم يجعله رفيقًا دائمًا يحمل ذاكرة الألم؟ هذه القصص تجيب بأن الأمان الحقيقي ينبع من الداخل، كما جسدته أمهات السودان اللاتي علّمن أطفالهن هذا الدرس الأعمق، وكنّ رمزًا للصمود والشجاعة، يبثثن الأمل حتى في أشد الظروف.
من القصص المؤثرة في الكتاب:
“في المعبر المصري، الجنود تعاملوا معنا برقي، استقبلونا بالمياه والأكل. نشعر أخيرًا بشيء من الأمان.” (ص 129).
(ص 135) الوطن ليس فندقًا: تتجسد روح التشبث بالوطن في مقولة عفراء الحاج الملهمة: “إن الوطن ليس فندقًا نغادره عندما تسوء الخدمة.” هذه الجملة ليست مجرد عبارة، بل هي فلسفة حياة لكثير من السودانيين الذين يرفضون الاستسلام لليأس، ويستمرون في العمل من أجل حياتهم رغم الخوف الذي يطاردهم، مؤكدين أن الوطن هو هويتهم، أملهم، وتاريخهم.
“الآن الجميع يحاول [الهروب من] الحروب إلى الولايات أو إلى الدول المجاورة.” وعلى لسان ست الشاي تقول بحزن: “ومع ذلك نحن صامدون لا نتوقف عن العمل من أجل حياتنا، رغم الخوف الذي يطاردنا.” (ص 136) إن الوطن هو أكثر من مجرد مكان؛ إنه الهوية، والأمل، والتاريخ.
مجاهد المعالج النفسي يقول: “لقد أعادتنا هذه الحرب خطوات طويلة إلى الوراء بعد أن كنا قطعنا أشواطًا في معالجة الحالات النفسية.” (ص 138)
“نحن هنا وسنبقى” كانت هذه العبارة تتردد في أذهانهم، تعكس إصرارهم على مواجهة المأساة. وهكذا، في زوايا المدن المنكوبة، بين أنقاض الحرب، يظل الأمل متمسكًا بحياة ما زالت تنبض، رغم كل شيء. (ص 139).
هذه القصص ليست مجرد حكايات فردية، بل هي جرس إنذار للانتباه نحو الهوية السودانية الممزقة. إنها تطرح أسئلة وجودية حول الأمان والانتماء، مما يجعلها أكثر من مجرد سرد للأحداث، بل دعوة إلى التفكير في المستقبل. نعم، الأمل رفيقنا في أحلك الظروف.
قدم الكتاب مادة سردية ممتعة ومؤلمة في نفس الوقت، مؤلم في تذكيرنا بالخبرة الصادمة في فراق الأرض، الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية على الخريطة، إنه قصة نُسجت خيوطها من تراب الأجداد، وضحكات الطفولة، وهمسات الآباء. إنه ذلك المكان الذي تحتضن فيه الأرض رفات من نحب، وتتغلغل ذكرياتهم في كل زاوية وركن.
وعندما يُجبر المرء على فراق هذا الوطن، لا يكون الألم مجرد حنين، بل هو جرح غائر يذكّرنا بخبرة صادمة: فقدان جزء من الروح. لا شيء يعوض دفء تراب الوطن، ففيه يتجسد معنى الانتماء. هذا التراب الذي لا يُقدر بثمن، يحمل بين ذراته قصصًا لا تُحصى، وحياة أجيال مضت.
الأغلى فيه هو أنه يضم أجساد أجدادنا وآبائنا، ويصبح كل شبر منه شاهدًا على وجودهم. الوالد، على سبيل المثال، قد يكون غائبًا جسديًا، لكنه حاضر بروحه في كل ركن من أركان البيت القديم. صوره، وشاحاته، إرثه الذي تركه لنا، كلها تذكرنا بوجوده بيننا، وكأنها همسات رقيقة تقول: “أنا هنا”.
هذه الذكريات، التي كانت تملأ حياتنا في الوطن، تصبح كنزًا نفيسًا في الغربة. هنا، في البعد، تتلاشى تفاصيل الأماكن، وتغيب الوجوه المألوفة، وتصبح تلك الذكريات البعيدة أشبه بحلم ضبابي. يصبح البيت الذي كان يضج بالحياة والصخب، مجرد صور باهتة في الذاكرة. كل ركن فيه كان يروي حكاية، وكل قطعة أثاث كانت تشهد على لحظات سعادة أو حزن. لكن في الغربة، تتشتت هذه الذكريات، ونشعر وكأن جزءًا من تاريخنا قد اقتُلع منا. تلك الخبرة الصادمة، خبرة فراق الأرض، هي ما يجعل الحنين مؤلمًا بقدر ما هو جميل.
جميل في استعادته لصور الماضي ووجوه الأحبة، ومؤلم في تذكيرنا بأن تلك اللحظات قد ولت، وأن تراب الوطن الذي احتضن أجدادنا وآباءنا بات بعيد المنال. يصبح الوالد، الغائب الحاضر، رمزًا لكل ما فقدناه: الأمن، الدفء، والانتماء العميق.
وفي كل مرة نتذكر فيها رائحة تراب الوطن، أو همس أوراق شجرة في فناء البيت، أو ابتسامة عزيز غاب، نشعر بلوعة الفقد، لكن في هذا الألم، يكمن قوة الحب الذي يربطنا بأرضنا وتاريخنا. إنه حنين يدفعنا إلى الحفاظ على تلك الذكريات، وتوريثها لأجيالنا، لئلا يغيب تراب الوطن عن قلوبنا، حتى لو غابت أجسادنا عنه.
إن الإنسان وهو في أشد حالات العزلة والوحدة، في حالة الجنون أو حتى النوم، يهلوس متخيلًا الآخر أو الآخرين، فبدون الآخر لا توجد الذات، إن إحساسنا بالذات ليس كيانًا معزولًا، ولكنه يتشكل باستمرار ويتم الحفاظ عليه وحتى تحديه من خلال علاقاتنا وتفاعلاتنا مع الآخرين. إن مجرد هلوسة أو تخيل الآخرين في لحظات العزلة الشديدة يؤكد هذه الحاجة البشرية الأساسية للاتصال والتحقق من العالم الخارجي.
مرجع لا غنى عنه: تحليل من قلب الوعي لا من جغرافيا الانتماء
على الرغم من أن الكاتب عمرو خان قد لا يكون “ابن البلد” بالمعنى التقليدي الضيق الذي يربطه بالجغرافيا المباشرة للأرض، إلا أن هذا الكتاب يثبت أن حدة البصيرة وعمق التحليل لا يحدها مكان أو نشأة، لقد تمكن خان بعبقرية فائقة من تشريح الأمراض وجسّد الداء بكل أنواعه: النفسي، الاجتماعي، الثقافي، الاقتصادي، والسياسي، بتسلسل دراماتيكي مؤثر.
إن هذا العمل يتجاوز كونه مجرد كتاب ليصبح مرجعًا أساسيًا لفهم مشكلاتنا الجذرية في السودان. إنه يضع أمام أعيننا الحقائق المرة بوضوح، ويدق ناقوس الخطر، ليس فقط لتحليل الماضي، بل لنتداركها قبل أن يقع الفأس في الرأس ونندم حيث لا يجدي الندم بعد فوات الأوان، فالوقاية دائمًا خير من العلاج، وهذا الكتاب هو الوصفة الأولى للتشخيص الصحيح والبدء في رحلة التعافي.












