أخر الأخبار

"إيثار" والسودانيون في بريطانيا يطلقون قطار "عودة الكرامة" من القاهرة

والسفارة تشرف على العودة من كوبري المريوطية إلى السودان

القاهرة-عمرو خان

في عالم تُدوَّن فيه الحروب بأرقام القتلى والنازحين، قلّما يُلتفت إلى تلك اللحظة التي يختار فيها الإنسان — رغم الفقر، ورغم الخوف — أن يعود إلى الجحيم الذي فرّ منه، لا لينجو، بل ليظل حيًّا بمعناه الأصيل.

في القاهرة، وتحت كوبري المريوطية، لم تكن الحقائب وحدها هي ما افترش الأرض في ذلك الظهير القائظ من يوليو، بل كانت هناك أرواح تقف على عتبة القرار الكبير: العودة إلى السودان.

ليست هذه قصة عن الهروب، بل عن الكرامة… عن مبادرة وُلدت في قلوب سودانية بعيدة جسدًا قريبة روحًا، في بريطانيا، لتعيد لأناسٍ مرهقين ما هو أعمق من المأوى: إحساسهم بأنهم ليسوا منسيين.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

نداءات القلب في المهجر

في المدن الباردة غرب أوروبا، وتحديدًا بين جدران المنازل السودانية المنتشرة في بريطانيا، اجتمع وجع الغربة بنخوة الانتماء. هناك، حيث يظن الناس أن الحياة أكثر أمانًا، كان القلب السوداني يضج بما لا يراه الآخرون: قلق على من تركوا خلفهم، على من نزحوا في لحظة، على من افترشوا الأرصفة بعد أن احترقت بهم الخرطوم.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

هكذا بدأت “مبادرة عودة الكرامة”، لا من قاعات رسمية أو خطابات مكررة، بل من رسائل هاتفية، ومجموعات دردشة، وقلوب لم تنقطع صلتها بالوطن. خاطب أبناء الجالية السودانية في المملكة المتحدة إخوانهم وأخواتهم في المهجر، وسرعان ما تحولت الدعوة من فكرة إنسانية إلى مشروع حي ينبض بالمحبة، عنوانه: “لن نترك من يريد العودة وحيدًا”.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

قلوب تحت الكوبري

عند منتصف نهار السبت 5 يوليو، كانت الشمس تتوسط السماء، حارقة فوق الإسفلت وأسفل كوبري المريوطية، عند نهاية شارع فيصل بمحافظة الجيزة. هنا، توافدت الأسر السودانية، من كل فج وصوب، نساء وأطفال وشيوخ، يحملون فوق رؤوسهم وداخل صدورهم ما تبقى من حياة منسية.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

افترشت الحقائب مساحة واسعة تحت الجسر، في مشهد يكاد يتطابق مع صباحات أبريل 2023، حين فرت آلاف العائلات من لهيب الحرب في الخرطوم، ووجّهت أنظارها نحو المعبر المصري، تحمل الخوف والأمل، وتخبئ الدموع بين طيات الرحيل.

لكن ما أشبه البارحة باليوم! المشهد مكرّر، ولكن هذه المرة ليس هروبًا بل رجوعًا. ليس بحثًا عن ملجأ، بل التماسا للدفء في قلب الوطن، وإن كان ينزف.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

 نداء العودة، وأسماء تغمرها الدموع

تقدّم أفراد المبادرة بهدوء يشبه خشوع الحجاج. يحملون قوائم الأسماء في أيديهم، ويدقّون بها على أبواب الأمل. ومع كل اسم يُنادى، تُضاء عيون وتذرف عيون. لم تكن مجرد أسماء، بل هي حكايات من لحم ودم، مرّت بطُرق العذاب، وها هي اليوم تُنادى إلى العودة.

طفل يركض نحو الحافلة بفرح مباغت، بينما تُغالب أمه دموعها وتُقبّل رأسه. امرأة مسنّة تهمس بكلمات شكر لا تجد لها صوتًا، ورجل ينظر إلى السماء طويلاً، كأنه يشكر الله على نعمة لم يكن يتوقعها.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

هنا تتداخل اللغات باللهجات، والصمت بالصلاة، والفرحة بالألم. إنها لحظة لا يمكن اختزالها في تقارير أو صور. لحظة تقول إن الإنسان يمكن أن يُهزم مرات، لكنه ينهض حين تمتد له يدٌ من بعيد.

 عندما يتحول الدعاء إلى مبادرة

وفي خلفية هذا المشهد الإنساني المؤثر، كانت دعوة صامتة لرجلٍ سوداني مسن يعيش في أحد أحياء القاهرة، يناجي بها ربَّه بأن يرى تراب وطنه قبل أن يدركه الموت في غربة قسرية فرضتها عليه الحرب. دعوة خرجت من قلبٍ مكسور، فاستجاب لها الله عبر بشرٍ مثله، أبناء جلدته ممن يعيشون في المملكة المتحدة، وتنبض أفئدتهم بحب الخير، لا يُحبونه فقط، بل يحبون كل من يصنعه أو يسعى إليه.

من هناك، اجتمع رجال ونساء من أبناء الجالية السودانية في بريطانيا، أسماء لا تسعى لظهور، بل لِجَبْر الخواطر. منهم من نظم، ومنهم من ساهم، ومنهم من أدار بصمت.

السيد علي عبد الموجود، الأستاذة فاطمة العبقري، الأستاذ أحمد المصطفى، الأستاذة سلمى مصطفى فرفور، الأستاذ عماد عوض الكريم، الأستاذ طلال بابكر، الأستاذ مجاهد الخير، الإعلامية الأستاذة ليلى مهدي، الأستاذ راشد موسى، الأستاذة ليلى تمام، والأستاذة هالة حسن.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

كلّهم، كلّهم لبّوا نداء الداخل من المهجر، وتضافرت جهودهم تحت مظلة واحدة، وبرعاية إنسانية كريمة من مؤسسة إيثار للإغاثة، وبإشراف مباشر من السفارة السودانية بالقاهرة، ليُكتب لهذا الدعاء أن يتحقق، ولتُفتح أمام هؤلاء العائدين أبواب الحافلات التي تعني لهم أكثر من مجرد وسيلة نقل.. إنها عتبة العودة، واستعادة الكرامة.

 إيثار لا يُنسى

ورغم أن المبادرة قامت على عاتق أفراد عاديين، حملوا همّ العودة عن غيرهم، وواصلوا الليل بالنهار، فإن اليد الكبرى التي أسندت الحلم وأعطته الحياة كانت يد مؤسسة إيثار للإغاثة.

قدّمت المؤسسة الدعم المالي واللوجستي، وأدارت الترتيبات المعقدة، متجاوزة البيروقراطية والحدود، لتقول لكل سوداني يريد العودة: “لسنا مؤسسة فحسب.. نحن عائلة”.

في صمت الأدوار الخلفية، كانت إيثار تبني المعنى الحقيقي للمساندة، وتعيد رسم صورة العمل الإنساني دون منّ أو ضجيج.

، مبادرة عودة الكرامة
، مبادرة عودة الكرامة

 ليس وداعًا، بل بداية أخرى

تحركت الحافلات، تاركة خلفها زغاريد مختنقة بالدموع، ووداعًا لا يُشبه إلا وداع المسافرين إلى الحياة. لم يكن أحد يعرف ما ينتظرهم في الوطن الذي عادوا إليه، لكنهم جميعًا كانوا متأكدين أن العودة رغم الحرب، رغم الألم، رغم المجهول، أفضل من حياة مشتتة بلا ملامح.

في قلب القاهرة، كتب اللاجئون السودانيون سطرًا جديدًا في دفتر التشرد. لم تكن تلك عودة عادية، بل كانت عودة الكرامة. عودة من أجل البقاء، من أجل الأمل، من أجل أن يظل الوطن حيًا في القلوب، حتى إن لم يكن آمنًا بعد.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى